الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

هل أصبحت كلية الطب خيار الأغبياء؟!


في صيف 2005 وبعد إنتهائي من الإمتياز والخدمة، كنت عاطلا عن العمل في إنتظار وظيفة لم تأت ومفلساً وفي غاية القرف. كتبت هذا المقال مخاطباً طلاب كلية الطب جامعة  الخرطوم وعلقته في أرجاء الكلية. أعيد نشره لأن الحال في حالو بل وأزفت.
الرجاء عند قراءة المقال مراعاة فروق الوقت !

الأطباء يتقاتلون على شباك المهية



أشُد على أياديكم
فمأساتي التي أحيا ..
نصيبي من مآسيكم !

(كلام كان يكتبه د. لؤي حيدر يومياً على سبورة قاعة أنيس أيام المذاكرة، ولم أدرك عمقه إلا مؤخراً)

دهش صديقي د. خالد طوكر عندما إكتشف أن سائق الركشة التي إستأجرها لتقل أمه من السوق الشعبي طبيب نائب إختصاصي حاصل على الجزء الأول من زمالة الكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والتوليدMRCOG . النائب المذكور علل لخالد عمله بالركشة لقلة الحيلة وإنعدام وظائف النواب والأطباء العموميين، ودافع عن وضعه بأنه مؤقت أملته ظروف العطالة والحاجة لجمع مال ييسر له إكمال الجزء الثاني من الزمالة ببريطانيا.

في ظل هذا الوضع الشاذ، وجلوس مئات الأطباء العموميين والنواب في قوائم الإنتظار الطويلة وتسكعهم بين شبابيك وزارة الصحة، وفي ظل الوضع المزري لممارسي الطب في هذه البلاد، يطل سؤال برأسه وما زال الكثير من طلاب الشهادة السودانية يضعون دخول كليات الطب نصب أعينهم: هل مازالت لدراسة الطب ذات البريق الأول؟ وهل مازالت أمنية الكثير من الأسر أن يتخرج أحد أبنائها طبيبا لرفع مستوى الأسرة إجتماعيا ومادياً؟

أنا شخصياً أصبحت أنظر بعين الأسى لكل الإخوة الصغار الذين مازالوا في السنين المختلفة لكليات الطب. زقد بلغ تطرفي في ذلك حداً جعلني أرثى لأي تلميذ متفوق في الأساس أو الثانوي أرى أن تفوقه ربما أودى به لدخول كلية الطب!

لماذا يدخل الإنسان كلية الطب؟
تختلف أهداف الناس من دخول هذه الكلية، إلا أننا سنحاول أن نضع إطاراً عاماً ربما شمل جل، إن لم يكن كل، هذه الأهداف:

الهدف الأول: لأن الطب مهنة إنسانية ومزاولته خدمة للوطن و و و ... إلخ من هذا الهراء الذي أصبح لا يقنع أحداً. تتلاشى كل هذه الأفكار الوردية بمجرد خروجك من عتبة هذه الكلية أو تلك لممارسة الطب الإنساني في مستشفيات السودان اللا إنسانية. يدرسوننا أنبوبة إيقاف النزف المعوي في الجراحة، ومن كثرة التكرار تظن أنها بلاشك ستكون بالدستة في جيب أي طبيب في اي مستشفى، لتكتشف أن مستشفى الخرطوم به واحدة معطوبة، وأن مستشفيات عظيمة كإبراهيم مالك وجميع مستشفيات الولايات لم تحظ بهذه المعطوبة!
تخرج لممارسة الإنسانية في محيط عمل لا يؤمن بها، ونظم إدارية وقوانين تقتل المريض الذي لا يملك ثمن حقنة أو عملية. نصف فترة الإمتياز ستقضيها (شحذة) لدواء المريض الفلاني أو لم (شير) لمريض آخر.
بالمناسبة: رغم إنني لا أحب كليات الطب الخاصة إلا أنني إكتشفت مؤخراً أنها قد تكون نعمة من الله على عباده المساكين. أ\كر، أثناء سعينا، في لجنة الأطباء والنواب لزيادة المرتبات، أننى قد داعبت زميلة من الأحفاد قائلاً: "أنتم بلا شك في غير حاجة لزيادة المرتب وأنتم قد درستم بآلاف الدولارات" فردت بلهجة تقريرية " هو المرتب لينا؟ ما لل patients  !  
مستشفياتنا الإنسانية تسرح فيها الكدائس وتعج بالفئران. قد توبخ من ال Boss أو تطرد من ال shift لأن كديسة لئيمة قد سرقت في حين غفلة منك عينة جراحية أُخذت من مريض وأُعدت لترسل لمعمل الأنسجة المريضة. وإن أنس لا أنسى منظر كديسة رأيتها تلحس بإستمتاع بصاق مريض من الطشت المجاور لسريره. ولما لم أستطع إكمال المنظر فقد أغمضت عيني وصرخت في عبدالله الجنيد أن ينهر هذه الكديسة!

حكاية كديسية أخرى: كانت لدي مريضة إجهاض في مستشفى كسلا. وجن جنوني عندما رأيت كديسة في ركن غرفة الولادة وهي منهمكة في إلتهام ما بدا لي من بعيد جنيناً آدمياً، فرحت أطاردها كالمجنون في الردهات علّي أن أستنقذ منها بقاياه، إلى أن جاءتني الداية مسرعة لتخبرني أن ما إلتهمته القطة جنينها الذى أنجبته في غرفة الولادة أسوة بالبشر وأن مريضتنا لم تجهض بعد!
وقد كان عندنا فأر مشهور في مكتب وحدة جراحة الجامعة يأكل عشاءنا ويخيف زميلاتنا ويمشي فوق وجه أحد الزملاء وهو نائم. وقد أعلنت يوماً وأنا نوبتجي بالمكتب أنه "يا أنا يا الفار" وأن لا نجوت إن نجا. فطردته أول الليل وسددت كل المنافذ ووضعت بقربي كل الأسلحة. وقد علم الجميع صبيحة اليوم التالي من عيوني المحمرة والفوضى التي تعن الغرفة أن النصر كان لل...فأر!
ذهبت إنسانية الطب مع كبار جعلوا تذركة الدخول لمريضهم مايربو عن المائة ألف جنيه، وآخرين شيدوا للطب صروحا لا تدخلها إلا بجيب ممتلئ وحساب بنكي متخم وإلا قذف بك ناس الهدف خارجاً، وآخرين جعلوا للقادرين تذكرة دخول مستعجلة تضاعف تذكرة الدخول العادية.
هَب أنك ستسمو فوق كل هذا الواقع وستمارس الإنسانية، كيف وانت ملطوع في كشف الإمتياز شهوراً عدداً؟ كيف وأنت ضمن مجموعة كبيرة من النواب والأطباء العموميين ممن هرموا في إنتظار الوظائف؟

س: ماهي أكبر المنظمات الطبية في السودان من حيث العضوية والإنتشار الجغرافي في كل الولايات؟
ج: لا تفكر كثيراً، هي بالطبع منظمة: أطباء بلا نقود!

الهدف الثاني: دخول كلية الطب لتحقيق ذاتيتك وطموحك الشخصي لأنها أعلى الكليات في السودان، وهذا في رأيي هدف معقول، لولا إنه لا ينطبق إلا على هذه الكلية (الخرطوم) دون غيرها من كليات الطب الأخرى. ثم إن كلية الهندسة الكهربية قد أخذت منا هذا الشرف مؤخراً!

الهدف الثالث: أن تفتخر بأك قد درست في كلية خرجت كل هؤلاء العمالقة من أمثال بروفسير داؤود وبروفيسر التجاني الماحي وغيرهم من النجوم التي أضاءت سماء هذه البلاد. وهذا للأسف لا ينطبق إلا على هذه الكلية وإلى حد كبير كليتّي طب الجزيرة وجوبا, هذا ايضاً هدف ممتاز، ولكن هل هو كافي لتجلب على نفسك كل هذه التعاسة المرتبطة بالعمل كطبيب في السودان؟

الهدف الرابع: أن تطمح لأن تتتلمذ على أيدي أميز صفوة أكاديمية في السودان من أساتذتنا الأجلاء، وهذا أيضاً لا ينطبق إلا على هذه الكلية والكليات القديمة وربما بعض الكليات العاصمية، فبعض كليات الطب الأخرى لا يرى طلابها أسماء عملاقة مثل بروفيسر نصرالدين وبروفيسر سكر إلا في غلاف ال Concise، ولا يسمعون صوت عمالقة آخرين مثل بروفيسر الضو مختار وبروفيسر الكدرو إلا من خلال، طيب الذكر، برنامج صحة وعافية.

الهدف الخامس: أن تنضم إلى صفوة الطلاب المميّزين أكاديمياً: Cream of the cream الذين يدرسون الطب، وما أبأسه من هدف!! كان هذا زمااان في عهود ما قبل (الفتح!). في السودات الآن 26 كلية طب عاملة وثلاثة قيد (الفتح!)، وهو ما يساوي 25% من كليات الطب في العالم العربي.
بالمناسبة: عدد كليات الطب في بريطانيا العظمى (إنجلترا+ويلز+سكوتلندا+إيرلندا) = 27 كلية طب
شبه القارة الأسترالية: 10 كليات
كندا: 16 كلية. أي أننا، أخيراً، قد تفوقنا على دول الإستكبار!
وينتفي هذا الهدف تماماً إذا علمنا أن كليات الطب الخاصة تتساهل كثيراً في نسب القبول، ولا يهم ما تنتجه في النهاية، بسكويتاً كان أم طبيباً! فالحكاية كلها إستثمار، وليس من مشكلة ما دامت الدولارات تأتي كل عام!
هل تعلم أن بعض زملائنا المستقبليين في ممارسة المهنة يدرسون الطب بالسودان بنسبة دخول معلنة 50%؟ وما خفى كان أعظم!

أظن كفاية!

تعازي أخشى ألا تخدعكم:
قال الشافعي: العلم علمان، علم الفقه للأديان وعلم الطب للأبدان وما وراء ذلك بلغة مجلس.

قال شاعر: قل لمن بصروف الدهر عيّرنا            هل عاند الدهر ألا من له خطر
              ألم تر البحر تعلو فوقه جيف             وتستقر بأقصى قعره الدرر
           وفي السماء نجوم غير ذي عدد            وليس يخسف إلا الشمس والقمر

أخيراً: هي محاولة للسخرية من واقع بائس، أعذروني إن قسوت عليكم قليلاً!

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

أولاد شلتنا (6) - خالد صديق




زهاء ثلاث سنوات مضين بعد آخر "ولد شلتنا"، وها نحن من جديد نبدأ من حيث إنتهى بنا الحديث، خالد صديق، خالد نيالا سابقا..
وقد كنت قد عزمت على أن أقُل في خالد ما قاله وما لم يقله مالك في الخمر وأن "أدّيلو بالحتة الفيها الحديدة" لكنّي نكصت عن عزمي طمعاً لا خوفاً، فخالد قد "تبوّأ" الآن منصباً كبيرا في اليونسيف، ولما كانت الأخيرة من المنظمات التي يتوق من هم على شاكلتنا من ناس الكمونيّة للعمل بها فلم يكن من الحكمة إذا ألّا "أقدم السبت" طمعاً في "أحد" خالد!
الطريف أن خالداً نفسه قد ذكّرني أن "القصة دي واقفة فوقو" وأن من الأفضل لراؤول، الذى كان قد ذكر حتة "لغاويسه" في جلسة جمعتنا قبل شهرين بالخرطوم، أن يتجنب تذكيري بها خشية أن يقع المحظور وأتملّك – كالجيش السوداني- زمام المبادرة من جديد!
 عرفنا خالد منذ السنة الأولى، وإن شئت الدقة فلتقل أنه لم يكن لدينا خيار سوى أن نعرف خالد! فقد كان خالد سياسياً ناشطاً منذ بواكير حياته في المدرسة الثانوية، ولعل خالد من القلائل ممن جاءوا إلي الجامعة برؤية واضحة ومسار محدد، عكس الكثيرين ممن بحثوا عن ملاذات فكرية وسياسية بعد إحتكاكهم بالجو السياسي في الجامعة، فمنهم من وجد بغيته ومنهم ومن ينتظر..
جئنا إلى الجامعة وقد وقع معظمنا أسيراً "للبروباقندا" الإنقاذية التى جعلت من الحزب الشيوعي منظمة أقرب للمافيا ومن الشيوعيين كائنات سافكة للدماء وآكلة للبشر. نجح خالد وشباب الجبهة الديمقراطية الآخرين من أولاد دفعتنا في عكس صورة مشرقة للشيوعي وأحبّهم الجميع بمختلف إنتماءاتهم السياسية والدينية. وربما ذلك يرجع لأن المنتمين للجبهة الديمقراطية في دفعتنا كانوا من صفوة القوم، وكنا محظوظين بوجود شباب مثلهم زي الورد، تجدهم في السراء والضراء ويسندون قفاك حين الملمّات.  
والغريب أن خالداً، رغم شخصيته المرحة وعلاقاته الإجتماعية اللامحدودة، قد نجح في إحاطة إنتمائه للجبهة الديمقراطية بكثير من السريّة، فحتى الآن لا نعرف على وجه الدقة نحن ما كان يفعله خالد في الجبهة الديمقراطية، فنحن نعلم مثلا أن الشيخ كان كادراً خطابياً مفوهاً لا يشق له غبار، و لابد أن سيف كان مسؤولا عن الجريدة (غالباً معاهو ميادة، أمسك الخشب، هذه أسرار تنشر لأول مرة!)، أما خالد فلا أعتقد أنه كان "كادر عنف" –إن وجد هذا المسمّى- مثلاً!
يحفظ  لخالد أنّه كان حريصاً على تطبيق الفكر التقدمي وتوجيهات التنظيم حتى على مستوى حياته الخاصة، كان شخصي شاهداً على حادثة طريفة.. فقد كنا متحلّقين في مدخل كافتريا طب ومعنا خالد، فإذا بأحد الكيزان المشهورين (ووجه شهرته أنه كان "بيحوم" بالكاكي في الجامعة) وقد يمم صوب شلّتنا ماداً يده بالسلام، فحدجه خالد بنظرة نارية أربكته فسحب يده المدودة بالسلام وولّى هاربا صوب دكان أمين ولم يعقب! كان ذلك في أوج تداعيات إستشهاد محمد عبدالسلام والمقاطعة الإجتماعية للكيزان والتي أجزم بأن خالد كان دقيقاً لأبعد الحدود في تطبيقها!
الحادثة الثانية كانت أيام أن شكّل بعض أبناء الجنوب عصابات صغيرة جابت الأزقّة المجاورة لكمبوني وبنك الخرطوم، إتخذت هذه العصابات أسلوب نهب واحد: يحتك بك أحد أفرادها ويختلق مشكلة من العدم، فيهرع بقية أفراد العصابة ويتحلقوا حولك مُرغين ومزبدين، وبعد أن ينجلي الموقف تكتشف فقدان جزلانك والموبايل. وقد (إتزنق) صديقنا شريف ذات ليلة مع مجموعة من هؤلاء قبالة بنك الخرطوم، أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم وضاقت عليه الأرض بما رحبت. لكن شريف إتّبع إستراتيجية ناجعة، فأثناء إحتداد النقاش إتخذ هو وضعا قتالياً أوهم مهاجميه أنه سيقاتل فإبتعدوا قليلا ليستعدوا للموقف الجديد ويتحرّفوا للقتال، فانتهز هو الفرصة وأطلق ساقيه للريح تجاه حسيب والرازي!
المهم أن خالد ومجموعة من الصحاب كانوا سائرين ليلا قرب ملاعب كمبوني فاصطدم أحدهم بخالد و إتهم خالد بأنه قد صدمه متعمداً. وأثناء النقاش بدرت من المهاجم كلمة بمعنى أن خالد قد صدمه من باب "حقارة أولاد العرب" فأضاف بذلك "بعداً جديداً للصراع"!
أخبرني الصحاب أن خالد بعد ذلك نسي الموضوع برمته ومسك في الحتة الأخيرة دي، وما فتئ (ينقنق) من مكانهم ذاك حتى وصولهم مكان المواصلات أن كيف يتهمه هذا بهكذا تهمة وهو قد أنفق عمره منافحاً عن مبادئ تقف ضد هذه السلوكيات وصائناً لها.
ورغم إنّ خالد يعطيك الإحساس أحياناً بأنه (ما جادّي) إلا إنه على النقيض تماما، فقد أفلح في رسم مسار محدّد لحياته نجح في إنجازه وما زال، في وقت ما زال فيه كثير من رفقائنا يتلمسون خطاهم الأكاديمية والحياتية. فخالد لا يضع السيف في موضع الندى أبدا،ً وللحلم عنده أوقاتاً وللهظار والشلة مثلها، لذا كان خالد أوّل من بدأ التخصص من شلتنا وأول من إقتنى حديدة (وقد كانت فعلا حديدة!)  في الإمتياز وأوّل من تزوج وكون أسرة. ولنا مع حديدة خالد الأولى تلك ذكريات طريفة، منها قصة إكتشفت منها أن لخالد حصيلة لا بأس بها من الأحاديث الشريفة! ذلك أن خالد كان مبتدءاً في السواقة وكنا معه في مشوار ما في شارع محمد نجيب، فمر من أمامه مشاة وطلبوا منه الإنتظار لحظة ريثما يقطع آخرهم الشارع، فتوقف خالد بعد لأي وجهد (لعاملين: "كعكعة" العربية، و"كعكعة" سواقة خالد)، فنظر إليهم شذراً وقال "والله لوتعلمون ما أعلم"!
وقد كان خالد أول من يمم شطر الكميونيتي من دفعتنا، وكما ذكرت في (في تقريظ الكمونية وناسها) فإنّنا تمنينا دوما أن تُعَز الكمونيّة بأحد الخالدين الشيوعيين: خالد صديق أو خالد طوكر. وكنت دائما أقول أن الكميونيتي من أفرع الطب التى لا يصلح فيها ولا يبرز إلا أناس بكاريزما معينة، وأنّ وجود جيل جديد من الأطباء المؤمنين بها العالمين بعلومها والمكرسين وقتهم وجهدهم  لها كخالد صديق قمين برفعها من وهدتها في السودان.  
وقد يمّم خالد شطر الجامعة الأمريكية في بيروت ومكث عامين أو زهاؤهما ينهل من علوم الكميونيتي برفقة الماء والخضرة وغيرهما! وكما ذكرت من قبل، فلمّا كان خالد الأسمر الوحيد في الجامعة فقد خشينا أن يجعل ذلك منه محطاً لأنظار الصبايا! ولعل ذلك قد كان حتى أنقذه الشيخ- الأسمر والسنقل في آن!
 وأيّام لبنان نصبت لخالد مقلبا ًمحكماً أفلت منه بنجاح منقطع النظير. فقد طلبت من إحدى زميلاتنا اللبنانيات (أيّام أمريكا) أن تتصل بخالد في لبنان:
زميلتنا: هلا خاااالد إيش لووو ونك
خالد في الإسبيكر: أهلاً (بكون كان مطيّر عيونو في اللحظة ديك)
زميلتنا: معك ريتّا. مالك ماعام تظهر، إشتئنالك!
خالد: أو.. أو؟ (صوت إستفهامي يصدر من الحلق)
زمليتنا: الشلة الليلة حيتلاؤو، حنشووووفاااااك؟
خالد: آآآ؟ (صوت إستنكاري يصدر من الحلق .. أيضاً)
المفيد أن خالد لم ينبس ببنت شفة طيلة الحوار، ولكني على يقين أنه لم يستشف أن وراء المكالمة مقلباً ما فالبنية كانت بارعة في التمثيل ، ولعله أراد أن يشوف "نهاية البت دي شنو"!
وكما تقدم، خالد الآن زول كبير في اليونسيف، كسرنا له من التلج في هذا المقال ما شاء الله لنا أن نكسر، عسى أن يرمقنا "بالعين الخالية من التنشين" –التعبير لعبدالله الجنيد-  ويشملنا بعطفه! وهو كذلك أبو ريل والتي ورثت جبهة خالد صديق المميزة، وسمرة (دبورتين يعني)، ومازال يخصص وقتاً للشلة،  فأمسياتنا لا تسقيم إن لم تبدأ بسلام خالد المميز (والذي لا ينصح به أطباء السلسلة الفقرية) وونسته العذبة.


الجمعة، 27 يوليو 2012

غرب دارفور: بطلان خرافة "لا بديل للإنقاذ"

حيدر جلو كما وأحمد إسحق



تذكرني الإنقاذ في إستمرائها كذبتها البلقاء أن "لا بديل لها إلا الفوضى" بأشعب عندما أراد شغل الصبيان عنه ببعثهم إلى مكان وليمة زعمه، وعندما إنطلق أولئك إلي المكان الذى وصفه صدق كذبته فلحق بهم فلم يجد شيئا !
جعلت الإنقاذ من همّ البديل بعبعا ما زالت تخوف به الناس ممن جربوا بؤس الأحزاب حاكمة كانت أو معارضة، وكأن البلد قد عقمت أن تنجب غيرها والأحزاب التقليدية والسياسيين المعروفين ممن خاب رجاؤنا فيهم.
 ولأن كل الطغاة يربطون أنفسهم بالوطن رباطا لا فكاك منه، يقع في إعتقادهم أن ذهابهم يعني ذهاب الوطن، وأن وجودهم قمين ببقاء الوطن وطنا، وأنه لولاهم لتخطفنا الطير وتقاذفتنا الخطوب. يربط بين الأنظمة الدكتاتورية في كل مكان الإعتقاد الجازم بأنها الوحيدة القادرة على تولي مسؤولية الحكم، وأن جميع من سواها قاصر وعاجز. يعتقد الطاغية مع مرور الزمن أنه فقط، لا شريك له، القادر على حكم هذا الشعب المسكين الذي لولاه لإكتنفه الضياع. الغريب أن هذا الإفتراض أثبت التاريخ مرارا خطله، فالقبور والسجون مليئة بمن ظنوا أنهم لا غنى لشعوبهم عنهم، فذهبوا وبقيت الشعوب.
وينسى البعض منا ممن تقاعس عن طلب الفكاك من فساد الكيزان وبطشهم مخافة البديل المجهول، أن العديد من القوى الجديدة ذات الرؤى والخطابات المختلفة قد نشأت أو قوي عودها في زمن التيه الإنقاذي.
هذه القوى، ونتيجة لسيطرة الإنقاذ على مفاصل الدولة لربع قرن، لم توضع أفكارها وأجنداتها في الإختبار، ولم يجرب الشعب ما قد تقدمه عناصرها من تجربة مختلفة و (طريق ثالث) في الحكم، بعيدا عن تعس الإنقاذ وخيبة رجاء الأحزاب.
وبطبيعة الحال لا تألو الإنقاذ جهدا في إبقاء هذه القوى بعيدا عن تجربة الحكم والإدارة، ليقينها بفشل تجربتها الذريع والبائن، ولعلمها بقدرة غيرها على تقديم أفكار جديدة وخطاب مختلف وربما حكم رشيد وجيل جديد من الساسة الوطنيين الملتزمين، إلا أن تضطر لذلك إضطرارا للإستيفاء بمستحقات إتفاقيات السلام كما بعد نيفاشا.
ورغم إن الحركة الشعبية قد إستطاعت آنذاك أن تدفع بمجموعة من كوادرها إلى مواقع الحكم المختلفة كان يرجى منها الكثير، بل وإستطاع بعضهم تقديم نمط مختلف وواعد في الإدارة والحكم، إلا أن الإنقاذ لم تدخر وسعا لإفشال هذه التجربة إما بإستمالة كوادر الحركة لصفها أو بوضع العراقيل أمامهم وسلب إختصاصاتهم التنفيذية ليكونوا مجرد ديكور .. ويقف وزير الصحة الأسبق عبدالله تية خير مثال على هذا السلوك.
وجدير بالإهتمام تجربة حركة التحرير والعدالة في ولاية غرب دارفور، فقد أثبتت الحركة بما لا يدع مجالا للشك أن هناك من بنى السودان، سواءا ممن لا زالوا يجالدون الإنقاذ داخله أو ممن تفرقوا في أصقاع الأرض المختلفة، من هو أهل للحكم والإدارة، وممن يملك القدرة والعلم والكاريزما والوطنية والإلتزام ليقدم تجربة  جديدة بعيدا عن شنشنة الإحزاب التي نعرفها وسوء الإنقاذ الذي نعانيه.
قدمت الحركة، عبر محاصصة سياسية لإستيفاء إتفاق الدوحة، مجموعة من الكوادر السياسية غير المألوفة نسبيا لأذن المتلقي السياسي السوداني، لمراكز حكومية مختلفة، غير إن ما أثار إهتمامي أكثر هو تجربتها في الحكم في ولاية غرب دارفور نظرا لحصولها هناك على منصب الوالي وبعض الوزارات الأخرى.
ورغم إن تجربة عناصر التحرير والعدالة قصيرة جدا في تولي مقاليد الأمور بولاية غرب دارفور، ورغم إن الإنقاذ مارست ديدنها في وضع العراقيل أمامها إما عن طريق عناصرها أو عن طريق حجب أو إنقاص ميزانيات التسيير من المركز، إلا أن مسؤولي الحركة إستطاعوا تقديم خطاب مختلف وصادق وشفاف، بعيدا عن النفاق الذى ألفه الناس من الإنقاذ طيلة ربع قرن، وعن الوعود الكاذبة التى ما فتر سياسيو الإنقاذ عن إطلاقها. خطاب تلمس منه أن مطلقيه ذوي إلتزام لا محدود تجاه شعبهم، وأنهم أسياد قرارهم وأفكارهم لا يخافون لومة لائم إن لم تتماهى مع ما يريد المؤتمر الوطني.
والي الولاية مثلا، حيدر قلو كما، شاب ثلاثيني من جيلنا، مثقف وذو كاريزما لا تخطئها العين. ملتزم تماما تجاه شعب ولايته وقضاياه. أكاد أجزم بقدرته على صنع تغيير واضح إن إمتلك الأدوات وصبرت الإنقاذ عليه.
أما وزير الصحة، السيد أحمد إسحق، فمثال للمهني السوداني المؤهل علما وتجربة، فقد جاء للوزارة بعد حياة مهنية طويلة في مفوضية الإمم المتحدة للاجئين، وربما هو وزير الصحة الوحيد في السودان المؤهل علميا وعمليا للمنصب والذي تلمس منه إلتزاما سياسيا ووعيا فائقا بقضايا الصحة.
ما أريد قوله، أنه سواء نجحت تجربة التحرير والعدالة في غرب دارفور، فشلت أو أفشلت، فهي دليل واضح أن حواءنا السودانية لم تعقم أن تلد غير الكيزان وممن هرم من قادة الأحزاب في إنتظار اللحظة التاريخية، وأن هناك من أمثال عناصر التحرير والعدالة من أبناء السودان الوطنيين والملتزمين كثر، منظمين أو غير منظمين، في العدل والمساواة (كزعيمها الذي يجبرك على إحترامه، الدكتور جبريل)، وفي غيرها من الحركات والمنظمات المدنية والأحزاب والقوى الحديثة كحركة حق والحزب الليبرالي بل وشباب شرارة وقرفنا والتغيير. أناس قادرون على صنع فارق كبير إن هم أعطوا الفرصة، وإن ما تهددنا به الإنقاذ من ويل وثبور إن هي ذهبت أو أذهبت لهو محض هراء.
 ستذهب الإنقاذ طال الزمن أو قصر، وسيثبت السودانيون أنهم قادرون على تقديم نفر من أنفسهم ينشلون هذه الأمة من وهدتها الطويلة ومن غياهب جبها، أناس لم تترهل بطونهم من أكل مال الشعب، ولم تسود صحائف أعمالهم من سوء ولايتهم عليه.
 قد إستبان الضوء في آخر هذا النفق الطويل، ومن مشى علي الدرب وصل.   

الجمعة، 22 يونيو 2012

وحسب (البطاقة) أن تكون أمانيا !




مدهش كيف أنه- عندما تكون في السودان- تتقازم أحلامك أحيانا لتبلغ حدا لا يتسق و الكلمة نفسها، وتنحصر تطلعاتك جميعا في قضاء أمر ما يعده الناس من توافه الأمور أو في الحصول على غرض ما ربما عددته أنت نفسك في ظرف غير ذات الظرف من سقط المتاع.
طيلة الأسبوعين المنصرمين إنحصر همي وتدنت تطلعاتي وأشواقي – زي ما بقولو الكيزان- في إستخراج بطاقة شخصية. على أمل إمتلاكها نمت وصحوت، علمت وعملت من القول والعمل ما لم أعلم من قبلها وما لم أعمل، وداعبني طيف خيال ذلك المستطيل البلاستيكي في أحلامي يقظة ومناما!
ذلك أنني، بفضل الله، قد فارقت الحكومة فراق غير وامق، و"رقوني" فصرت باشكاتب في إحدي المنطمات بمدينة بالغرب الأقصى، وقد إستتبع ذاك بطبيعة الحال "زيادة الراتب". وهنا مربط الفرس. الراتب لا ينزل إلا في بنك معين، وناس البنك المعين هؤلاء بلغ من "عكلتتهم" أن  نظروا في أوراق السودانيين الثبوتية جميعا فلم يختاروا شرطا لفتح الحساب إلا الشئ الوحيد الذي لا أملكه: البطاقة الشخصية. صورت الجواز فلم يجيزوني، دفعت برخصتي فأرخصوها، وأعلنوها واضحة: البطاقة الشخصية أو حالة الفلس الأبدية. وهنا بدأت حجوة أم ضبيبينة.
لكي أستخرج البطاقة لا بد من الرقم الوطني. وكنت قد قدمت لإستخراج الأخير في يناير الفائت بدار الأطباء. ومنذ ذلك الحين قعدنا ننتظر اللجنة الموقرة القادمة من السجل المدني لإستخراج الرقم الوطني للأطباء وأسرهم. المهم، بعد إنتظار دام ستة أشهر فقط حضرت اللجنة وبقيت ثلاثة أيام بالدار وكنت من المحظوظين الذين تحصلوا علي الرقم الوطني يوم 11 يونيو، ولما كانت طائرتي لغرب السودان تقلع اليوم التالي فقد قررت إستخراج البطاقة هناك، ولو كنت أعلم الغيب لما مسني السوء!
بخطى واثقة دخلت على المقدم بمبنى الجوازات وأخبرته عن رغبتي في إستخراج بطاقة مشفعا ذلك بأوراقي الثبوتية. ضحك المقدم ومن معه حتى شككت أنني قد ألقيت نكته فاتني أنا الوحيد مغزاها.
"يا دكتور لينا شهرين ما طلعنا بطاقة لي زول. طبعا الكهرباء بتاعة الحكومة هنا بتجي من 7 مساءا ل7 صباحا، وجنريترنا خسران ليهو شهرين".
طيب والحل؟
 "والله لو عندك سفرة غادي-قاصد الخرطوم-أحسن تتطلعها هناك".
ولا يفوت على "فطنة القارئ" أن بطاقة مافي = ماهية مافي.
بعد أسبوع قررت القيام بزيارة أخرى للجوازات من باب إلقاء السلام وتحصيل الحاصل، لكن يبدو أنني كنت محظوظا. في ذلك اليوم بالذات شعر الجماعة بالخجل وقرروا البدء بإستخراج البطاقات. لا تكن متفائلا فتظن أن الكهرباء الحكومية إتصلحت أو أن الجنريتر إشتغل. العسكرية تصرف طبعا، ورغم أن هذا التصرف-إنتداب عسكري لإصدار بطاقات بعد السابعة مساء- جاء متأخرا إلا إنه وفي ذلك الظرف كانت "كتير منهم". كان علي أن أهرع لأكمل أوراقي لأدرك العدد المحدد، ثلاثين شخص لا غير.
شهادة السكن؟ الزول في الفطور بيجي الساعة إطناشر ونص. نصور بطاقة الشاهد؟ الكهرباء قاطعة أمشو لفلان داك عندو جنريتر. قضيت سحابة اليوم في إكمال الأوراق ولكني كنت محظوظا فحصلت الثلاثين- أسميتهم فيما بعد الثلاثين المبشرين بالبطاقة- ولكن يبدو أن حظي كمل "جت" عند تلك النقطة بالذات.   
حضرت في تمام السادسة والنصف مساءا وقد بدأت أحلم بالماهية وقسمتها شرقا وغربا. قابلت خلقا كثيرا إهترأت فوائل بعضهم من القدم ونعال آخرين من المساسقة من أجل البطاقة. صدقت الحكومة وعدها فجاءت الكهرباء في تمام السابعة ولم يصدق العسكري فجاء بعدها بربع ساعة وأنفق ثلاث ارباع ساعة أخرى "يعافر" في الأجهزة وسلوك ووصلات لا أول لها ولا آخر.
عند الثامنة كان هناك شخصين فقط من الثلاثين المبشرين قد تم تصويرهم. في الثامنة والنصف هب شوية همبريب فوقع في روع ناس الكهرباء أن المطرة جاية فقطعوها شر قطعة. لم يصدق العسكري فطلب منا الحضور في السابعة من مساء الغد.
المحظوظون ممن إستلموا بطاقات في ذلك اليوم قابلهم الحضور بالتهليل والتصفيق ورفعوا هم البطاقات عاليا ككأس العالم وطلب بعض المنتظرين لمس البطاقات للتبرك وأظن أن بعضهم قام بشمها.
تاني يوم؟ الحمدلله، وجدنا الكهرباء، وتكرم العسكري فجاء مبكرا، لكن ... الشبكة قطعت.
تالت يوم؟ جاءت الكهرباء في السابعة، لم تصب الأمطار، وتم إصلاح عطب الشبكة. جنابو حسن، الوحيد البيعرف للهندسة النووية دي، إتضح إنو أمبارح كان سادي خدمة والليلة في الراحة.
قلت للجماعة المنتظرين لمن "نقنقت" وطلب مني أحدهم الصبر، أن "كوتة" الصبر التي تمنح للسوداني "بتكمل" في زمن ما وهو بعد في المرحلة الإبتدائية. علينا أن نكمل ما بقي من عمرنا من بعد كيفما إتفق.
المهم، اليوم إستخرجت البطاقة. إستقبلني المنتظرين بالتهاني وصافحني جمع غفير وأصر عدد كبير منهم علي لمس البطاقة بأيديهم وبأيمانهم. طفقت أنا كل حين وآخر، وأنا في طريق العودة، على إستخراج البطاقة وتحسسها لأتأكد إنها حقيقية وموجودة وملموسة ومشمومة. يمكن لي الآن أن أتطلع للمستقبل العريض وأخطط للزواج والدكتوراة وباقي أحلامي المؤجلة في سبيل .. بطاقة.
دوما ما يختلط عند شعوب العالم الثالث ممن أذلتها الدكتاتوريات ما هو من حق المواطن واجب على الدولة توفيره وماهو رفاهية تمنها عليه أعطته أو منعته. يفرح عندنا الناس بمقعد في المواصلات بعد طول إنتظار أو مدافسه وتلهج ألسنتهم بالشكر عند عودة الكهرباء أو سريان الماء أنصاص الليالي بدفرة الموتور. خذ مثلا تدافع الأطباء قبل أسابيع للحصول على مرتباتهم حتى كاد يقتل بعضهم بعضا على شبابيك الوزارة، والغبطة الشديدة التى أصابت من"فاز" منهم بإحدى الحسنيين المرتب أو منحة الرئيس، وكأن المرتب هو منة تتفضل بها عليهم الدولة وليس حق لهم عليها يكون من أوجب واجباتها إيصاله إليهم لا إيصالهم إليه.
بقيت الإتقاذ طويلا لا لأنها قوية ولا لأن المعارضة خائبة الرجاء. بقيت لأنها إستطاعت إختزال أحلام الناس وآمالهم في رغيف خبز وحق مواصلات ورسوم المدارس. نجحت بقدرة قادر في جعل الشعب يلهج بشكرها إن هي قدمت عشر ما له عليها من حقوق في مقابل أخذها كل ما عليه من واجبات، وفي تحويل أساسيات الحياة المتفق عليها بين شعوب الأرض إلى عناصر رفاهية تحسد الشعب عليها وتمن عليه إن حصل على بعض منها. سينتظر الناس طويلا لتشغر في خزائن أحلامهم الملأى بالرغيف واللبن والماهية أماكن لمفاهيم  مثل "الحرية" والديمقراطية".  عندها فقط سنلحق بالربيع العربي. 

الاثنين، 4 يونيو 2012

لا يخافك ولا يرحمنا


بعد زهاء خمس سنوات قضيتها خارج البلاد لا أجد مثلا أصف به ما وجدت عليه حال حكومتنا مذ أن تركتها أوفق من "الحمير في طينو"، وتقرأ "الحمير" –تصغير دارجي للحمار- بكسر الحاء وفتح الميم وتشديد الياء وكسرها. يطلق هذا المثل على من قصرت همته على مفارقة سوء حاله وترك المكارم والمعالي ولم يعمل لنيلها.
مازالت حكومتنا كما تركتها، تجيد الجعجعة من غير طحن، تمارس الحكم بسياسة رزق اليوم باليوم، وتقبع رفاهية شعبها في ذيل أولوياتها إن كان لها أولويات أصلا.
يحكى أن المعتمد بن عباد، آخر ملوك الطوائف بالأندلس، كان له جارية تسمي الرميكية قد شغفها حبا، أطلت من شرفة القصر ذات يوم فرأت الجواري يمشين في الطين فاشتهت أن تمشي فيه. فأمر بالطيوب فسحقت وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم عجنت بماء الورد حتى حاكت الطين فخاضت فيه هي وجواريها وكان يوما مشهودا. ذات المعتمد كان عاجزا عن دفع رواتب جنده ومدنه تتساقط الواحدة تلو الأخرى في يد الفرنجة.
لم أجد على مر الزمان من فاق المعتمد في ضيق الأفق و إختلاط الأولويات إلا أهل "الإنقاذ". بعد عقدين ونيف في التشبث بالسلطة لم يستطع هؤلاء توفير مياه للشرب لسكان عاصمة بلاد يشقها النيل العظيم وترقد على مخزون هائل من المياه الجوفية.  تلاميذ المدارس عندنا يجلسون على الأرض في فصول من رواكيب، ويموت الناس بسوء التغذية والإهمال. لكن، المغرضون من أمثالنا ممن باعوا أنفسهم "للإمبريالية العالمية"و دول "العمالة والإرتزاق" هم فقط من ينظرون إلى سوءات الإتقاذ ويهملون أنها حفظت لنا الوطن من كيد الأعداء والمتربصين. تقف الصروح الشاهقة لوزارة الدفاع خير شاهد على أننا "شعب لا يرضى الضيم ويرضى أن يهلك جوعا ومرضا على أن تنتهك حرماته"، أو كما قال وزير المالية الأسبق "حمدي" في معرض تقديمه لميزانية سنة ما أمام مجلس وطني ما مبررا تخصيص جل الميزانية لأغراض الدفاع.
فعزاء المواطن الوحيد، على صبره علي الجوع والعطش والمرض والجهل، أننا شيدنا مبنى لقواتنا البرية في شكل سفينة ولقواتنا الجوية في شكل طائرة، وأننا نملك يختا رئاسيا "يطول رقبتنا" أمام زوارنا من قادة العالم. ما عليك، إن أحسست بتقصير الدولة تجاهك في مأكل أو مشرب أو علاج، إلا أن تقف أمام سفينة عبدالرحيم وتلتقط صورة تذكارية، يمكنك فيما بعد مقايضتها بالماء والخبز أو إستعمالها كتذكرة دخول للطبيب.
ومايزيد من غمنا، أن هذا المال الذي تبخل به الحكومة على شعبها، فتخصص منه  أكثر من سبعين بالمائة للدفاع و شؤونه، مقابل أقل من سبعة بالمائة للصحة والتعليم مجتمعين، أريتو كان جاب "لبن!"  تامزين. لم يشهد السودان على مر تاريخه أن إحتلت اراضيه من ثلاث دول مختلفه، إحداها أحدث دولة في العالم، وقاد طبيب مجموعة من القوات غير النظامية المسلحة تسليحا خفيفا لمشارف القصر الجمهوري، وجعلت منا إسرائيل أضحوكة وقد صارت أجوائنا لطيرانها آمن من أجواء فلسطين المحتلة.
مشكلة الأنظمة الدكتاتورية عموما، أنها عندما تأتي، تلعن سنسفيل من سبقوها ممن قصروا في حقوق الشعب وأجاعوه وأسغبوه وأذلوه، وتطلب من ذات الشعب أن يلهج لسانه بالشكر لأنها جاءت في الوقت المناسب لنشله من وهدته وإطعامه من جوع وإيمانه من خوف. ثم لا يلبث للنظام الدكتاتاتوري أن "يروح له الدرب في الموية"، وتتغير أولوياته من رفاهية الشعب إلي رفاهية منسوبيه، ومن تأمين الشعب إلي تأمين نفسه من الشعب. الغريب أن جميع هذه الأنظمة تنفق جل ميزانياتها على الأمن والدفاع بدعوى حماية الوطن من الأخطار الخارجية بينما هي في حقيقة الأمر تحمي فسادها وسوء حكمها وحكامها من الشعب، وهي في سبيل ذاك تتقمص روح الوطن وتدعي أنها الوطن وأن الوطن هي، فتسحق في طريقها كل من يقف أمامها بدعاوي التخوين والعمالة واللاوطنية، فهي جميعا لا ترينا إلا ما ترى ولا تهدينا إلا سبيل الرشاد.
جميع الحكومات الرشيدة في العالم تضع رفاهية شعوبها في قمة أولوياتها، ولا تصل حكومة لسدة الحكم إلا بعد تمحيص من الرأي العام لجدية وعودها في ما يليه من تعليم وصحة ومواصلات وغيره. ذات الرأي العام الذي يمتلك حق تغيير الحكومة إن هي نكثت بوعودها في أقرب إنتخابات. هذه للأسف نعمة لا تملكها الدول التي يحكمها "المختارون" ممن إختارهم الرب لا الشعب لحكم شعوبهم.
ولأن كل الطغاة يربطون أنفسهم بالوطن رباطا لا فكاك منه، يقع في إعتقادهم أن ذهابهم يعني ذهاب الوطن، وأن وجودهم قمين ببقاء الوطن وطنا، وأنه لولاهم لتخطفنا الطير وتقاذفتنا الخطوب. يربط بين الأنظمة الدكتاتورية في كل مكان الإعتقاد الجازم بأنها الوحيدة القادرة على تولي مسؤولية الحكم، وأن جميع من سواها قاصر وعاجز. يعتقد الطاغية مع مرور الزمن أنه فقط، لا شريك له، القادر على حكم هذا الشعب المسكين الذي لولاه لإكتنفه الضياع. الغريب أن هذا الإفتراض أثبت التاريخ مرارا خطله، فالقبور مليئة بمن ظنوا أنهم لا غنى لشعوبهم عنهم، فذهبوا وبقيت الشعوب.
لكن الطغاة لا يقرأون التاريخ!