الأحد، 10 يوليو 2011

في تقريظ (الكمونية) وناسها


والكمونية هنا الكميونتي ميديسن وليس أكلتنا السودانية الشهية، وأنوي في هذه العجالة تقريظها لا (تقريضها). وقد طفق لفيف من ال clinicians علي تسميته بالكمونية تحقيرا لشأنه ولشأن ناسه، جهلا منهم بدوره المفصلي فيما يمارسونه ولا يمارسونه من ألوان الطب، وكما أن الكمونية في الحيوان هي مصنع ومبدأ كل ما يحتاجه ليحيا وتستقيم حياته، فإن منزل الكمونية في الطب مشابه، فعلى علومها المختلفة تقوم كل أركان الطب المختلفة وإن جهل أو تجاهل الممارسون.

وقد أفرد أستاذنا (Gordis) في سفره العظيم (Epidemiology) بابا تحدث فيه عن أهمية هذا العلم وكيف أن أركان الطب تقوم عليه، فبطرقه التجريبية يعلم الclinicians الrisk factors وال differential diagnoses وأحسن طرق العلاج والprognoses ومآلات المرض المختلفة، ولولا الإبديميولوجي وناس الكمونية لما وجد الكلينشيان شيئا يبنون عليه ممارستهم للطب ولصار ضربا آخر من التنجيم.

ولقد أتي علي الكمونية حين من الدهر لم تكن في السودان شيئا مذكورا، إذ لم يدخر القائمون علي أمرها حينئذ وسعا-بقصد أو بغير- علي تنفير الناس منها فعلا في الfields وقولا في قاعات المحاضرات، وزاد ذلك من نبذ الأطباء لها وجعل بعضهم يعتقد أنها مجال يقصده ممن تقطعت بهم سبل الطب وعجزوا أو كسلوا عن إدراك غيرها كالرجال (المحمولين) والنساء (الحوامل)! وقد زاد من سوء ظن الناس بالكمونية أن منح مجلس التخصصات الطبية في أولى سنينه ال (MD in community medicine) للفيف من وزراء الصحة الولائيين هكذا ضربة لازب، بلا إمتحانات أو rotation أو يحزنون، في وقت كان فيه الحصول علي ذات الMD في ضروب الطب الأخرى دونه خرط القتاد، فأودى ذلك بكثير من إحترام الناس للكمونية، وزاد سمعتها ضغثا على إبالة.

غير أنني أعترف أنني كنت جاهلا بمكانة الكمونية في الكلية، فدككت محاضراتها شر دك، وفضلت عليها مزاملة خالد السر كأستاذ كيمياء في إحدي المدارس الثانوية ومتابعة الأركان وتسطير (لافتات) التي إزدهرت في سنة خامسة، ولم يكن القليل الذي حضرته من محاضرات مشجعا أو محمسا إذ أنني لم افهم شيئا وقتلني الملل، لأجد نفسي والإمتحان على الأبواب أحملق في مجموعة ضخمة من الأوراق المصورة لا أعرف لها صرفا من عدلا. وأذكر أننا إستعنا علي حفظ ذلك الكلام الممل- الذي سأكتشف بعد زمن أن لا علاقة له بالكمونية الحقيقية- بكلمات وجمل إخترعناها يحمل كل حرف منها بداية لجملة. وعندما إستعصت علينا إحداها جاءنا مأمون بجملة تذكيرية إجتهد في تلفيقها، وهي (eido ibn koku mat) ! وعندما وجد مأمون إحدي حسان الدفعة وقد وقفت حائرة أمام هذا الموضوع المعقد تطوع بإعطائها الجملة السحرية. المشكلة أن الجمل السحرية نفسها كانت معرضة للنسيان، إلا إن مأمون قال للحسناء ليساعدها علي التذكر:(إيدو إبن كوكو مات، إتخيلي إنو في واحد إسمو" إيدو"وأبوهو إسمو "كوكو" قام مات)! ومن نافلة القول أن طريقة مأمون كانت ناجعة، فهأنذا لا زلت أذكر الجملة رغم مضي 11 عاما علي الواقعة، وربما ساعد علي ذلك أن الحسناء ما أن خرجت من قاعة الإمتحان ورأت مأمون حتي هتفت بصوت عذب ( "إيدو إبن كوكو مات" ما جابوها)!

وأثناء إنهماكي في فك ألغاز أوراق الكمونية قبيل الإمتحان إكتشفت أن أوراقي تنقص موضوعا ما، فقصدت مجموعة من شباب الدفعة كانوا يستعدون للإمتحان سويا وسألتهم عما إذا كانت لديهم أوراق (البتاع داك) وحاولت وصفه بقليل المعلومات التي أعلمها. ولما لم يحر أحدهم جوابا نظر إليهم أمين عمر قائلا "الزول ده بيكون قاصد المعاطة" ! والمعاطة كما "لن يغيب عن فطنة القارئ" هي ال Alma Ata declaration !

هكذا إذا كانت تجربتنا ومعظم طلاب الطب مع الكمونية في الجامعة، فلا غرو إذا نبذها الناس بعد التخرج. ولولا أن قيض الله للكمونية نفر من أمضى شباب الأطباء وألمعهم فأقاموها من عثرتها لظلت في السودان نسيا منسيا. إعتنق الكمونية مجموعة من شباب كليتنا والكليات الأخرى ممن آمنوا بدورها العظيم خاصة في بلد كالسودان ينوء كاهله بعلل لا تداويها حقنة الأطباء ومشاكل لا يزيلها مبضع الجراح. قال لي عمار صالح مرة وقد شكوت له من عدم تقييم الناس لنا كناس كمونية : "جيلنا ده هو الحيغير فهم الناس للكمونية لمن نكبر ونكتر".

وأزعم أن الكمونية من دون أفرع الطب الأخرى تحتاج لأناس بكاريزما خاصة ولا ينجح فيها ويبرز إلا هؤلاء. لذلك تجد أن أنجح الناس فيها من كانوا "ريسين هوس" في الجامعة وأصحاب الأنشطة غير الأكديمية كالسياسيين ومن لف لفهم (من لف لفهم ديل نحنا). وقد ضحكت كثيرا عندما ذكر بكري بشير معددا مناقب منظمة أطباء بلا حدود "أنها تذكره بالجبهة الديمقراطية" !

وقد كنت أتمنى دوما أن يعز الله الكمونية بأحد الخالدين الشيوعيين: خالد طوكر وخالد صديق. وبينما رأيت في إعتناق خالد صديق للكمونية فتحا لها في السودان لا زلت (أستكتر) خالد طوكر على الجراحة، فبكاريزمته المميزة سيكون طوكر، كما كان سميه، إضافة مميزة للكمونية في السودان.

وقد رمت كليات الطب في السودان الكمونية بفلذات أكبادها فاستقوت بهم من بعض ضعف وسمت بهم من بعد ضعة، وصار الإنتماء إلي هذه الكوكبة ضرب من الشرف. أناس أذكياء و broad minded تستمتع بالعمل معهم والتتلمذ علي أياديهم، كان لبعضهم فضل لا ينكر في حياتنا العملية، كمحمد صديق الذي آواني وأخرين في برنامج الإيدز وأتاح لنا فرصة إبراز مقدراتنا ك future public health professionals وعيسى حمودة الذي كان خير معين في البرنامج بتميزة العلمي والعملي وآخرين زاملناهم كالدومة (ووجوده في الكميونتي نصر من الله وفتح قريب) وحامد وفاطمة بابكر وجيتر وماجد والصادق وحسن عوض الله. ثم إستقوت الكمونية في السودان بمجموعة من الشباب المتميزيين كسيف عبدالله وبكري بشير والشيخ وبشير ومها حمدي ومن الجامعات الأخرى هبة بت الجزيرة وأماني بت جوبا، وهي من أوائل الذين كشفوا لي الطريق عندما إلتقيتها أثناء أدائي للخدمة الإلزامية بمستشفي كسلا السعودي وكنت حينها أظن ظنا آثما أنني سأتخصص في ال Obs، كما لا أنكر أن لقائي بدكتور الواثق مدير برنامج الإيدز السابق وأمين الشؤون الإنسانية بحركة العدل والمساواة في ورشة عمل بكسلا قد حبب إلي الكميونيتي أكثر فهو ذو أسلوب مميز وكاريزما لا تخطئها العين.

أزعم كذلك أن لشخصي الضعيف الفضل في رفد الكمونية بكنزين ثمينين. في ذات صباح توجهت لمحمد صديق وأخبرته عن زميلة لي أود إلحاقها ببرنامج الإيدز، وكان محمد كالعادة على قدر الرجاء وأكثر. والغريب أنني لم أخبر هذه الزميلة بمسعاي إلا بعد أن تكلل بالنجاح، وهكذا دلفت أمل صلاح، مدير إدارة تعزيز الصحة الإتحادية ، إلي رحاب الكميونتي.

ثم نمى إلي علمي أن الصادق كرم الله إمتحن كميونتي وقاعد عاطل، فإستأذنت محمد صديق في رفد SNAP به وقد كان.

وقد أعزت الكمونية بإثنين من أبناء صالح (ووجود أي منهم في أي مكان قمين بتشريفه) فوضع عمار بصمات لا تنكر في الدرن و معمل علم الأوبئة، وسررت عندما علمت أن عابدة (التي تصر أن إسمها عابدة) قد سلكت ذات الطريق.

ولما في التنصيص قصة طريفة لا علاقة لها بالكمونية ولكن لا بأس من أن نحيد عن الموضوع قليلا، فقد قابلت عابدة وهي برلومة لنج في سنة أولي وقد خرجت لتوها -زعلانة- من مكتب خولة مسؤولة العمادة بمجمع طب (ومن لا يعرف خولة !) سألت عابدة عن سبب زعلها فأخبرتني أن خولة بعثتها لتراجع أوراقها بالجامعة وأرتني ما كتبه لها علي الورق: ( الأخوة بمكتب التسجيل، الطالبة المذكورة أعلاه مقيدة لدينا بإسم عايدة و"هي تصر" على أن إسمها عابدة)! وما كان لعابدة أن "تغالط" خولة في إسمها الذى ولدت به "هو في حد بيعرف أحسن من الحكومة"!

أود ختاما أن أستعير عنوان كتاب الصادق المهدي "الديمقراطية عائدة وراجحة" لأقول ان الكمونية عائدة وراجحة، بإزدهارها يزدهر الوطن وبقوتها يقوى ولا يموت. يمكن للجراح أن ينقذ نفسا أو نفسين بمبضعه، ولل clinician أن يبعد الموت عن قلة من الناس بعقاقيره، ولكن التأثير الأكبر والأشمل يظل لناس الكمونية، وليس أصدق من شعار كليتنا ، Hopkins School of Public health الخالد ما خلدت:

"Protecting Health, Saving Lives-Millions at a Time"