السبت، 2 أغسطس 2014

الإنقاذ وجامعة الخرطوم: حشف. . . وسوء كيل !



كثيرون دهشوا لما تناقلته بعض الصحف فى الأيام السابقة تعليقا على خبر احتلال جامعة الخرطوم للمركز الثالث والأربعين أفريقيا فى تصنيف جامعة شنغهاى جياو تون الصينية ، وبكى أستاذنا جعفر عباس على ما آل إليه حال الجامعة فى زاويته ودعا إلى حملة لإنقاذها. .إلا أننى ، وكثيرون من طلاب وخريجى الجامعة فى حقبة الإنقاذ ، قد دهشنا لدهشة هؤلاء، بل ودهشنا أكثر لأن الجامعة - بعد كل الصفعات التى تعرضت لها من أصحاب المشروع الحضارى – ما زالت تدخل التصنيفات العالمية ، وقد كان ظننا أننا قد فارقناها منذ أمد بعيد!
لابد أن نقر إبتداءا أن التدهور  الذى أصاب الجامعة لم يبدأ فى عهد الإنقاذ ، وإنما بدأت إرهاصاته منذ الديمقراطية الثالثة ، لكن ، بينما كانت أسبابه قبل 1989 ترجع للإهمال و اللامبالاة ، ميز القصد والإستهداف المتعمد من بعض القائمين على الأمر ما حدث وما زال يحدث للجامعة بعد ذلك التاريخ. ويمكننا تلخيص العديد من مظاهر استهداف النظام وأنصاره للجامعة قديما وحديثا فى ما يلى :
الخطاب الإنقاذى الإعلامى تجاه الجامعة :
رغم أن معظم منظرى وقيادات النظام من خريجى الجامعة، إلا أن إعلام الإنقاذ قد صنف الجامعة باكرا كعدو محتمل يقف عثرة فى سبيل التمكين لدولة المشروع الحضارى ، ودأب على تهييج الغوغاء واستعدائهم عليها  ، ربما لأن الجامعة كانت أحد معاقل الوعى البارزة التى مثلت معارضة مهمة لسياسة التغييب وتكميم الأفواه التى مارسها النظام منذ إنطلاقته ، ومثلت الرئة الديمقراطية الوحيدة التى تتنفس بها البلاد وسط سياسة التهييج والهتافية التى عمت البلاد فى مطلع التسعينات ورفعت شعار (مع الرحمن أو مع الأمريكان ) وكفرت كل من وقف ضد أطروحات الإنقاذ تكفيرا سياسيا وفكريا. فمثلا :
* فى عام 1993كتب أحد منسوبى النظام فى إحدى الصحف اليومية – الإنقاذ الوطنى على ما أذكر- مقالا بعنوان (جامعة الغردون) ، هاجم فيه الجامعة واتهمها بالعلمانية والولاء للإستعمار الذى هى صنيعته وطالب بإلغائها خاصة وأنها تمثل حجر عثرة أمام تقدم المشروع الحضارى ! كان ذلك عقب المظاهرات العنيفة التى انطلقت من الجامعة فى نفس العام.
* فى إحدى حلقات برنامج فى ساحات الفداء قال مقدم البرنامج عن أحد الشهداء فى معرض الحديث عن مناقبه (ولما حالت لوائح جامعة الخرطوم بينه وبين أشواقه للجهاد تحول إلى جامعة السودان) ولا أدرى كيف ينتقد تلفزيون الدولة  لوائح جامعة مملوكة للدولة بدعوى أن لوائحها تحول بين الناس والجهاد ! وأظن أن المقصود أن جامعة الخرطوم لم توافق على البدعة المسماة ( إمتحانات المجاهدين) التى تتيح لبعض طلاب الجامعات الأخرى إمتحانات خاصة إذا  فاتهم حضور الامتحانات الأساسية أو إمتحانات البديل والملاحق المعروفة فى النظم الجامعية المتبعة فى كل مكان.
* فى حلقة أخرى من البرنامج المذكور فى أعقاب ما يسمى بإنتفاضة الرغيف أواخر1996،  والتى قادها طلاب الثانويات وجامعة الخرطوم ، تعرض معد البرنامج (لمثيرى الشغب) و (أذيال المعارضة) وعقد مقارنة بينهم وزملائهم المجاهدين الذين فارقوا مقاعد الدراسة ليوفروا الأمن لهؤلاء.وختم البرنامج بعبارة موحية :(هؤلاء الذين ذهبوا طلبا للشهادة فى الجنوب ما أسعدهم لو وجدوها فى الخرطوم) !
* تداولت الصحف اليومية فى أواخر عام 1994 خبرا يتحدث عن (جامعة حكومية عريقة تدور المشاورات هذه الأيام لتحويل إسمها لجامعة الشهيد ) ، وقد علل كاتب الخبر ذلك بالعدد الكبير من الشهداء الذين قدمتهم هذه الجامعة، ولم يكن الأمر يحتاج لذكاء كبير للتكهن بماهية هذه ( الجامعة الحكومية العريقة )، وأظن أن هذه  بالفعل كانت نية بعض متطرفى النظام ، وأن عقلاءه وقفوا ضدها ، إذ كان تطبيقها يعنى القبر الفعلى للجامعة بكل تاريخها وحاضرها ومستقبلها . 
الحصار الإقتصادى للجامعة :
حجمت السلطة من ميزانيات تمويل الجامعة بصورة واضحة ربما لصالح الجامعات الجديدة أو ربما لشئ فى نفس يعقوب ، حتى أن إنفاق الدولة على الجامعة لم يتعد فى أحيان كثيرة الفصل الأول، وقد ذكر لنا عميد سابق لكلية الطب أن ميزانية التسيير الممنوخة لجامعة الخرطوم فى أحد الأعوام تقل عن ميزاينة أحد المعاهد الجامعية العليا ! بل وقد وصل الفقر بالجامعة للحد الذى عجزت فيه عن دفع فواتير الكهرباء والإتصالات ، وما زلت أذكر ذلك اليوم فى صيف 1996 الذى قطعت فيه إدارة الكهرباء الإمداد الكهربائى عن الجامعة بسبب المديونية الضخمة. وقد أدت الحاجة المادية الملحة بإدارة الجامعة الى إتخاذ جملة من الإجراءات لتوفير المال اللازم لتسيير الجامعة التى واجهت شبح الإنهيار:
* قامت الجامعة ببيع مجموعة من ممتلكات الجامعة الإستثمارية مثل مزرعة الجامعة ( الجزء الشرقى ).
* قامت الجامعة بسن قانون القبول الخاص الذى أدخل لأول مرة المال كمعيار للإنتساب للجامعة المشهورة بدقة معاييرها الأكاديمية منذ تأسيسها ، وفتح الباب لدخول فئات أخرى غير مستوفية لشرط الكفاءة الأكاديمية تحت مسمى القبول الخاص ، مثل الدبابين وأقارب الشهداء الذين منحوا تخفيضا مقداره 7% من نسب الدخول لأى كلية .
* أدخلت الجامعة لأول مرة فى تاريخها نظام الدبلومات الذى يتيح بعض الموارد المالية ، وابتدعت بعض الكليات كورسات وبرامج تعليمية خاصة بها بالتعاون أحيانا مع بعض المؤسسات من خارج الجامعة.
* سنت الجامعة قانون جامعة الخرطوم الخاصة الذى يتيح للجامعة إنشاء كليات طب وهندسة وصيدلة موازية للموجودة حاليا ، وخاصة كليا ، وهو ما عرف حينها بالقبول الموازى ، ورغم إجازة القانون من مجلس الجامعة،إلا إن وقفة الطلاب القوية ضد القرار ، أدت إلى إلغائه بعد تدخل السيد/ على عثمان محمد طه .
هنا ، لابد أن نذكر أن تقييم جامعة شانغهاى  آنف الذكر قد إستند على عدة نقاط منها البحث العلمى الذى يعد ترفا فى جامعة تبيع أرضها ومعاييرها الأكاديمية الدقيقة من أجل تسيير نشاطها العادى ودفع فاتورة الكهرباء!
لقد أدى حصار الجامعة إقتصاديا إلى وقف البعثات العلمية الخارجية ،والرحلات الأكاديمية ، وغياب الجامعة من المؤتمرات والمحافل العالمية ، وتوقفت الدوريات والمطبوعات عن الصدور عن الجامعة أو الورود إليها لعجزها عن دفع الإشتراكات ، وتجمدت خطط ومشاريع التطوير والتحديث بل و حتى تزويد المكتبات بالمراجع والكتب الجديدة  ، وأصبح الهم الأكبر فى إيفاء نفقات التسيير اليومية ! 
التضييق على الأساتذة:
تعرض أساتذة جامعة الخرطوم من غير الموالين للنظام للتضييق فى الأرزاق ، ومصادرة الحريات والحقوق النقابية ، وكان معيار الولاء للنظام هو الأول فى تعيين قيادات الجامعة ، مما أدى لهروب عدد كبير جدا من طاقم الجامعة إلى الخارج ، بحثا عن خيار أفضل ماديا فى كثير من الأحيان ، بعد أن غدا ما تقدمه الجامعة لا يفى بالحاجات الأساسية ، أو بحثا عن مساحة من الحرية لم تتح فى ظل نظام يصر على تنفيذ أجندته الخاصة داخل الجامعة.
أدى نزيف العقول ألى تدهور فى الأداء الأكاديمى حيث إعتمدت الجامعة – خاصة فى الكليات النظرية على طاقم أكاديمى أقل خبرة وأحدث تجربة .
تشريد الطلاب ومصادرة حقوقهم النقابية :
استهلت الإنقاذ عهدها بمصادرة داخليات جامعة الخرطوم وإلغاء نظام الإعاشة مما أدى إلى تشريد الكثير من الطلاب الفقراء الذين ترك بعضهم الدراسة بسبب عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات الحياة اليومية.أما ما يسمى بالصندوق القومى لدعم الطلاب الذى أنشأته الدولة فقد فشل فى تقديم بديل لما كانت تقوم به عمادة الطلاب من إسكان الطلاب ورعايتهم وحل مشاكلهم ، بل وتحول إلى أداة جباية تفرض رسوما على الطلاب للسكن فى داخليات جامعتهم ، مما أدى إلى توتر العلاقة بين الطلاب والصندوق بصورة دائمة ، ساعد على ذلك مجموعة من المشرفين ضيقى الأفق والجاهلين بكيفية التعامل مع الطلاب والذين استعان بهم الصندوق لإدارة الداخليات بدلا عن مشرفى عمادة الطلاب ، كما عمدت إدارة الصندوق إلى الإستعانة بالقوة العسكرية دوما لحل مشاكلها مع الطلاب ، الشئ الذى بلغ ذروته عام 1999 عندما أدى إقتحام قوات الأمن للداخليات إلى إستشهاد محمد عبد السلام الطالب بكلية القانون آنذاك.
لقد جعلت هذه السياسة من بعض طلاب جامعة الخرطوم فى شغل دائم بأمر مصاريفهم الدراسية ومأكلهم ومرقدهم ، الشئ الذى أثر على الزمن المخصص للتحصيل الأكاديمى المتميز والإبداع الإنسانى الفريد الذى ميز دوما طلاب هذه الجامعة.فاقم من ذلك لجوء النظام ألى تعطيل إتحاد الطلاب لفترات زمنية طويلة ، إذ كانت إستراتيجية الدولة تجاه إتحاد طلاب جامعة الخرطوم تقوم على إتحاد يخضع لسيطرتها أو لا إتحاد. بنفس هذه النظرة الأنانية الضيقة عطل النظام قيام الروابط الطلابية والجمعيات الأكاديمية التى كان واثقا من عدم قدرة طلابه على الإستحواذ عليها وذلك لأكثر من ثلاثة عشر عاما.ولم يقتصر تأثير ذلك على إفتقاد الجامعة والطلاب لنشاط هذه الجمعيات والروابط الأكاديمى والثقافى المهم وتخرج أجيال عديدة من الجامعة بدون أن تحظى بهذه الأنشطة فحسب ، بل أدى أيضا إلى نشوء أجيال أخرى لا تعلم شيئا عن التراث الثر والتاريخ المشرف لهذه الكيانات ، وقد عانى الطلاب كثيرا لإعادتها إلى الحياة بعد تولى التحالف لقيادة الإتحاد، بعد أن فقدت الدساتير والوثائق وحتى الدور.
ويبدو هنا تقديم المصلحة الحزبية الضيقة على مصلحة الطلاب والجامعة واضحا ، إذ أنه ورغم أن تنظيم السلطة قد قاد الإتحاد عامى 93 و 94 ، إلا أنه تجاهل عن عمد إرجاع هذه الكيانات لعدم قدرته للسيطرة عليها كما ذكرنا آنفا.
التعريب :
جاء قرار تعريب المناهج الدراسية بالجامعات متسرعا ولم تصاحبه دراسة متأنية لما قد يؤدى إليه من آثار سالبة ولم يصاحب تنفيذه تدرج منهجى يتيح للمختصين تعيين ما يمكن تعريبه و توفير مناهج معربة مناسبة لحاجات البلاد ، بل قصد منه الكسب السياسى فى المقام الأول ، وضح ذلك فى المناهج التى قامت وزارة التعليم العالى بجلبها على عجل من بعض الدول العربية والتى اتضح عدم صلاحيتها للطالب السودانى خاصة فى العلوم الطبية والهندسية ،وفى سياسة الإرهاب التى اتبعها النظام تجاه الأساتذة الرافضين لقرار التعريب.ورغم إن مجالس بعض الكليات – ككلية الطب- قد اتخذت قرارا بعدم الإستمرار فى سياسة التعريب ،فإن طلاب الكليات التى سايرت القرار وهى معظم الكليات النظرية قد تضرروا جراء الجهل باللغة الإنجليزية اللازمة للدراسات العليا والمهمة فى سوق العمل ، ولم تجد مناهج اللغة الإنجليزية المصاحبة- والتى فرضتها إدارة الجامعة من بعد لتدارك هذا الخطأ التاريخى – فى تحسين مستوى اللغة الإنجليزية لخريجى جامعة اشتهرت دوما بالتميز فى هذا المجال.
لقد غدت الجامعة فى الأعوام السابقة كريما على موائد اللئام ، وسلبت منها مقومات البقاء والوجود ، ولولا وقفة عدد من أبنائها المخلصين من بعد عناية الله لأصبحت أثرا من بعد عين.وهى إذ تحاول الآن القيام من عثرتها ، لهى فى أشد الحاجة للمزيد من جهود أبناء اوطن ، لتعود إلى سابق ألقها  ،جميلة ومستحيلة ، قلعة للديمقراطية ومنارة للفكر.