الأحد، 19 أغسطس 2018

المشير "بركاوي": استخفّ قومُه فأطاعُوه

المشير "بركاوي": استخفّ قومُه فأطاعُوه

عِزّان سعيد

مبروك للمشير. فقد استكمل أشراط الطّغيان كافّة فأصبح دكتاتوراً "كامل الدسم" لا يقل بأساً و بؤساً عن تيمورلنك و هولاكو و شاوشيسكو و شاه إيران و القذافي. يعْمَه مثلهم في طغيانه فلا يُرِي تنابلة المؤتمر الوطني إلا ما يرى و لا يهديهم إلا سبيل الخراب. و مبروك للشعب السوداني، فقد وصل بركاوي للحلقة الأخيرة و صعد إلى أعلى الصرح راجياً أنْ يبلغ الأسباب، و لم يبْق إذاً إلا السقوط.

يعيش الطّاغية دوماً في فقّاعةٍ كبيرة يصنعها بنفسه و يزيّنها له مَن حوله، تحجبه عن حقيقة بؤسه وهوانه على شعبه. أنظر إلى القذافي في لحظاته الأخيرة وهو يُساق إلى حتفه كالبهائم مِمّن ظنّ طوال عمره أنّهم يرونه الزّعيم الملهم و "القائد الأممي" الذي لا يأتيه الباطل.

يخبرنا التاريخ أنّ الطاغية عندما يصل لمرحلة الطغيان الأعْمَه فإنّه يعيش منعزلاً رغم كثرة عدد و عُدّة من حوله. و لأنّهم جميعاً مِمّن يجمعهم الطّمع و يفرّقهم الفزع، فإنّ الطّاغية في الحقيقة يعيش وحيداً، لا يَعي ذلك إلّا في ساعاته الأخيرة عند إنفضاض جموع المنافقين، فلم تنفع شاوشيكو حينها الجموع الهادرة التى طالما هتفت بإسمه، ولم تَحُلْ لجان القذافي الثوريّة بينه و بين "العود" و رصاصة القلب و القبر المجهول، و سيذهب المؤتمر الوطني جفاءاً كالزّبد و يترك "بركاوي" لرحمة شعبٍ طالما آذاه بنَزْقِه و تجبّرِه و ظلمِه، يموت في عهده الأطفال "سمبلة" بقنابل الأنتنوف و تحت أنقاض الفصول و في جوف النّيل، بينما يرقص هو على أشلاء وطنٍ مزّقه و "مرمط" كرامته، و يعدّ نفسه ليحكمنا سنيناّ جديدة و هو قد شارف الثّمانين، و كأنّه قد ضَمِن الخلد، و كأنّما حواءنا قد عجزت أنْ تُنْجب من يلِي أمرنا ولا يسومنا سوء العذاب.

وللطّغيان الأعْمه علامات تُصيب جميع الطّغاة في كلّ زمانٍ و مكان، فهم كأنّما قد خُلِقوا من طينةٍ واحدة:
الأولى غياب الطّاغية التّام عن ما يجري من حوله، فهو لا يعلم أو يعلم ولا يعي. يموت النّاس في الطرقات جوعاً فتنصحهم ماري إنطوانيت أن يأكلوا الكيك، و يثور النّاس لكرامتهم و حريّتهم فيسألهم القذافي "من أنتم"، و يتقاتل النّاس في صفوف الخبز و البنزين و يموت التلاميذ بلدغات العقارب و بين أمواج النيل فيبشّرنا "بركاوي" بإستعدادنا لإنقاذ إقتصاد دولة الجنوب!
و إذا أردت أنْ ترى علامة إنفصام الطّاغية عن واقعه حيّة، فابْحث بالّلغة الإنجليزية عن "خطبة شاوشيسكو الأخيرة" في اليوتيوب، لتندهش من مدى حيرة شاوشسيكو و إستغرابه – قبل إعدامه بايام- عندما بدأ النّاس يهتفون ضده في لقائه الجماهيري الأخير الذي أقامه و هو لا يدرى أنّ الأرض قد مادت من تحت أقدامه.

العلامة الثّانية إعتقاد الطّاغية الجازم بأنّه المخلّص الذي لولاه لتخطّفت شعبه الطّير و تقاذفته الخطوب. و هذه سمة تلازم الطغاة جميعاً حتّى القبر، فإمّا هو أو الطوفان، فهو كفرعون ما علم لنا من إلهٍ غيره. ربما تُفاجأ إذا علمت أنّ صاحبنا – و البلد تحتضر و تنزلق من بين أيدينا إلى الهاوية- يعتقد جازماً أنّه إذا لم يترشّح في ألفين وعشرين و يحكمنا إلى الأبد فإنّنا و لا شك سنكون في ضنكٍ و عسفٍ و فوضى تُماثل ما حلّ بسوريا و ليبيا، فهو إذاً هبة الله لهذا الشعب المسكين! بل أنّنى لا أشك أنّه قد وقع في يقينه أنّه يضحّي من أجلنا و يمنُّ علينا بوجوده على سُدّة الحكم، فلولاه لا وجود لنا ولا ذكر.

العلامة الثّالثة هي تناقُص الخُلَصَاء من حول الطّاغية و بالتالي تكاثر المنافقين، و تناقص الخُلَصَاء يكون إمّا بضيق الطّاغية بهم و بنصحهم أو بضيقهم هم من ضيق أفقه و صدره، أو بمضايقتهم و إبعادهم عبر من حوله من المنافقين ممّن يزينون له الباطل و يمدّونه في الغي. الغريب في أمر صاحبنا أنَّ جلَّ ممّن أتُوا به إلى الحكم من الإسلامويين قد إنفضّوا من حوله واحداً تلو الآخر، إبتداءاً من كبيرهم و ليس إنتهاءاٍ بغازي و أمين حسن عمر، و هو ما زال يظُن أنّهم جميعاً على خطأ و أنّه الوحيد الذي أوتِيَ الحكمة وفصل الخطاب.

العلامة الرّابعة للطّغاة أنّهم " ما طارين الموت". يعتقد أحدهم أنّه قد مُنِح الخُلد فيتشبّث بالسّلطة حتى لا يعلم من بعدِ علمٍ شيئاً، و في موقابي و بوتفليقة و صاحبنا خير مثال. ليس هذا فحسب، بل أنّهم لا يتّعظون مِن مصارع مَن حولهم من أشياع و كأنّ الموت قد سُنّ لغيرهم لا لهم. لم يُحرّك غرق هذا و إحتراق ذاك في صاحبنا شعرة، فما زالت "نفسه فاتحة" للحكم بعد ثلاثين سنة يريد أنْ يزيدها خمس.
العلامة الخامسة أنّ جنون الطاغية يزداد بتقدّم عمره. فجميعنا يعلم أنّ "بركاوي" لم يكن بهذ القدر من الغرور و التجبّر عندما أُتِيَ به ليكون واجهة لإنقلاب الجبهة، و لكن ما رآه من تذلّل الإسلاميين له وبذلهم الغالي و الرّخيص في طلب ودّه و فيهم حملة دكتوراة و تكنوقراط، أوقع في روعه أنّه الزّعيم الملهم و أنّ ما يراه من أتباع السوء من طاعة عمياء إنما هو لعبقريّته و قدرته وحده –لا شريك له- على الحكم و القيادة.

لا أتوقع أنْ تدرك صاحبنا صحوة مفاجئة فيُصالح شعبه و يُدرك ما صنعه بنا من دمار. سيسير كالأعمى في طريق من سبقه من طغاه و يستنّ بسنّتهم و ينتهى إلى ما صاروا إليه. و لطبيعة شعبنا و ما جُبِل عليه من خلقٍ و ما نشأ فيه من حضارة، فإنّى أُرجّح له سيناريو بن علي (الهروب) أو سيناريو نميري/ولد الطايع (التغيير أثناء الوجود في ما سيكون لاحقاً منفى) أكثر من السيناريوهات العنيفة: القذّافي (العود/القبر المجهول) أو علي عبد الله صالح (رصاصة الرأس)، رغم أنّ الرّوح قد بلغت الحلقوم و بلغ السيل الزّبى واقعاً و مثلاً.
آسى كثيراً على ثلاثة عقود قد مضت من عمرنا و عمر هذا الوطن و نحن فيما نحن فيه من تِيه. و لكنّي على يقين من أنّنا في أحلك ساعات الليل التى تسبق الفجر، و أنّ فرعونَنَا و جُنده قد آن لهم أنْ يعبروا البحر.

فيديو دبي: أقرَعوا الواقفات


"- من أنت ؟
إني آدميَّة -
أدري -
فلا ترضى البهائمُ أن تكون كجنسنا
أو أن تعيش حياتنا
أو أن تُفكِّر مرَّةً
في الإنحطاط لمُستوى حُكَّامنا 
-أختاهُ 
ماذا تفعلين، إذن، هُنا ؟
- لا شيء .. أرتكبُ الزِّنى
-أتُفارقين بلادنا
لتُهدِّمي شرف العُروبة
في بلاد عدُوِّنا ؟!
- إني أهدِّمهُ
لأبني في بلادي، من حجارة عفتي،
بيتًا لنا 
وبكتْ 
فسال الكحلُ في الدمعات .. ليلاً رابعًا
فأذابنا
وأسالنا "
أحزان أصيلة – أحمد مطر

عجبت لتعجّبِنا و ثورتنا على فيديو بناتنا في دبي. فبعضنا، ولا أبرئ نفسي، ينتظر تناقل وسائط التواصل للفيديوهات و التّسجيلات و الصور لنملأ الدنيا صياحاً في الإحتجاج على قضايا نعلم وجودها علم اليقين و لكنّا ندفن رؤوسنا في رمال النّكران و نغمض أعيينا رجاءاً أن نفيق فلا أثر لها. ففي زمن هزيمتنا و إنكسارنا، جبُنّا و عجزنا عن مواجهة عدوّنا الأّول الذي أذلنا من بعد عزّة و أفقرنا من بعد غِنى و "بعثرنا في كل وادي"، فما زلنا منذ زمن نطعن "في ضل الفيل".

و رغم أنه لا يحق لأحد أن يتخذ الفيديو ذريعة لإصباغ أي تهمة كانت على من فيه، و أنه لا شك أن من نشره قد تغول على خصوصيتهم، فقد جعله الكثير منا ذكرى لما تفعله بعض بناتنا في بعض العواصم العربية مما لا يرضينا.
و الذين يبكون على شرفنا المسكوب في أزقّة دبي و القاهرة و غيرهما، يرون القشّة هناك و يعمُون عن الجذع في شوارع الخرطوم و مدننا السودانية. فمنذ أتت لحُكمنا الشياطين في 1989 و أفقرت البلاد و أذلت شعبها، بلغ بؤس العيش في زمن التيه الإنقاذي بالكثيرات مبلغ أن يمارسوا الجنس من أجل المال، و تنامت هذه الظاهرة فشملت كل قطاعات المجتمع من طالبات و عاملات و موظفات، و كان من المحتّم أن يخرج بعض هؤلاء إلى بلاد الدّرهم و الدينار بعد أن أضاق حكامنا عليهم بلادهم بما رحبت.

أتاح لي عملي سابقا في برنامج مكافحة الإيدز الإقتراب من هذه الفئة فعلمت عنها ما تشيب له الولدان. نُعامل – مجتمعاً و سلطة – هذه الفئة كالمجرمين في حين أنّهن ضحايا لظروف بالغة التعقيد، و أجزم أنّه من العسير أن تسير إمرأة في هذا الطريق ما لم تكن مجبرة، تسدّ رمق أطفالا جائعين أو حوجة أمِّ عجوز.

إقترح الكثيرون تشديد الدولة لضوابط سفر النّساء في ما ظنوا أنّه حل لهذه الظاهرة و إنقاذاً لما تبقّى من سمعتنا في ديار الغربة، و لكن هذا الحل كمن يحمل الماء بملعقة شاي ليطفئ ناراً قد عمت سائر أرجاء البيت. فحل هذه الظاهرة ليس في منافذ المطارات أو في حواري دبي، بل هنا في الخرطوم. فظاهرة عمل بناتنا في تجارة الجنس في السودان و خارجه إنّما هي عرض من أعراض كثيرة للتدهور الحضاري الشامل الذي أوصلنا إليه أصحاب المشروع الحضاري، لا تنفصل عن هجرة الشباب عبر مراكب الموت و عصابات المواتر و "الخرشة" و الطفيليين ممن سرقوا قوت الشعب و انتشروا في كل مكان. إنحطاط الحضارة و الأخلاق يصاحب دوماً الفقر الناتج عن سوء إدارة الإقتصاد الذي يميّز حكومات الإستبداد. و لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فلا يمكن فصل الفساد عن الحكومات الدكتاتورية، ففي وجودها يترعرع و ينمو و يزدهر، وفي ظلالها تنمو طبقة الطفيليين و يقابلها إزدياد الفقراء و إختلال موازين المجتمع و قِيَمه. 

ظاهرة هؤلاء البنات في دبي و القاهرة ليست إلا قمة جبل الجليد الرّابض في الخرطوم. فجميعهُن قد بدأن هذا الطريق في الّسودان، و إذا أردنا أن نقضي على هذه الظّاهرة فمنه يجب أن نبدأ، و المسؤولية هنا مشتركة، مسؤولية دولة و مشرِّعين و مجتمع.

مسؤولية الدولة ليس في توفير فرص تعليم و عمل و حياة كريمة لأبناء الشعب من الرجال و الّنساء فحسب، بل و في السماح للجهات المختصة و منظمات المجتمع المدني و دعمها للعمل مع فئات النساء من اللائي أضطررن للعمل في تجارة الجنس من غير تجريم أو توصيم لإعادة تأهليهن كأفراد منتجات في المجتمع. 

يأتي بعد ذلك دور المشرِّع – الذى يأتي به الشعب - في تعديل قوانينا الحالية التي تحمل في معظمها عسفاً كبيراً لنسائنا. عندما عملت طبيباً في مستشفى النساء و الولادة في كسلا دخل علينا مرة مجموعة كبيرة من عساكر البوليس دخول المنتصرين و قد إقتادوا إمرأة كسيرة في ملابس النوم طالبين منّا أن نوقع عليه كشف إثبات ممارسة الجنس. سألهم نائب الإختصاصي حينها عن سبب وجود المرأة في ملابس النّوم فقالوا إنّ القانون يحتّم عليهم حمل المتهمين بالزنا في بوكسي الشرطة على الهيئة التي وجدوا عليها و الطّواف بهم في طرقات المدينة و المستشفى و نهايةً إلى مركز الشرطة. طلب منهم زميلنا الفاضل أن يأتوا بملابس المرأة و سترها قبل أيقاع الكشف المطلوب، فتمنّعوا و قالوا أن الملابس في البوكس. أصرّ زميلنا على ستر المرأة المسكينة و قال قولةً ما زال صداها يرن في إذني كلّ حين : " و الله ما تجيبوا ليها هدومها أملص ليها بنطلوني ده". هناك رضخ العساكر و سُتِرت المرأة بعد أن طافت بملابسها الداخلية معظم شوراع كسلا و هي لا زالت بريئة لم تثبت أدانتها.

و كما تقدّم، فإنّ مسؤوليتنا كمجتمع في أن نعامل هؤلاء الفتيات كضحايا لا كمجرمات، و أن تعمل المنظمات و الجهات ذات النشاطات المجتمعية على إستيعاب العائدات منهن في مشاريع مدرّة للدخل، و توفير فرص لتأهيلهن للعمل في مهن شريفة و تعلميهن.

لقد طال ليل هذه العصابة و أسودّ جانبه، و ما فتئوا طيلة ثلاثة عقود حسوماً يمنوننا بالمنّ و السّلوى و أن نأكل من فوقنا و من تحت أرجلنا إن أصاب عبثهم بالإقتصاد، ناسين أنه لا يمكن أن تتوفر عوامل النّجاح لأي إصلاح إقتصادي من غير إصلاح سياسي. ستظلّ كلّ حين تصدمنا ما يماثل فيديو دبي و المنشية ما دام يحكمنا أسوأنا و أرذلنا و أفسدنا و أكذبنا و أجرأنا على الله ممّن يخدعنا في كل يوم بإسمه العظيم.