الاثنين، 4 يونيو 2012

لا يخافك ولا يرحمنا


بعد زهاء خمس سنوات قضيتها خارج البلاد لا أجد مثلا أصف به ما وجدت عليه حال حكومتنا مذ أن تركتها أوفق من "الحمير في طينو"، وتقرأ "الحمير" –تصغير دارجي للحمار- بكسر الحاء وفتح الميم وتشديد الياء وكسرها. يطلق هذا المثل على من قصرت همته على مفارقة سوء حاله وترك المكارم والمعالي ولم يعمل لنيلها.
مازالت حكومتنا كما تركتها، تجيد الجعجعة من غير طحن، تمارس الحكم بسياسة رزق اليوم باليوم، وتقبع رفاهية شعبها في ذيل أولوياتها إن كان لها أولويات أصلا.
يحكى أن المعتمد بن عباد، آخر ملوك الطوائف بالأندلس، كان له جارية تسمي الرميكية قد شغفها حبا، أطلت من شرفة القصر ذات يوم فرأت الجواري يمشين في الطين فاشتهت أن تمشي فيه. فأمر بالطيوب فسحقت وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم عجنت بماء الورد حتى حاكت الطين فخاضت فيه هي وجواريها وكان يوما مشهودا. ذات المعتمد كان عاجزا عن دفع رواتب جنده ومدنه تتساقط الواحدة تلو الأخرى في يد الفرنجة.
لم أجد على مر الزمان من فاق المعتمد في ضيق الأفق و إختلاط الأولويات إلا أهل "الإنقاذ". بعد عقدين ونيف في التشبث بالسلطة لم يستطع هؤلاء توفير مياه للشرب لسكان عاصمة بلاد يشقها النيل العظيم وترقد على مخزون هائل من المياه الجوفية.  تلاميذ المدارس عندنا يجلسون على الأرض في فصول من رواكيب، ويموت الناس بسوء التغذية والإهمال. لكن، المغرضون من أمثالنا ممن باعوا أنفسهم "للإمبريالية العالمية"و دول "العمالة والإرتزاق" هم فقط من ينظرون إلى سوءات الإتقاذ ويهملون أنها حفظت لنا الوطن من كيد الأعداء والمتربصين. تقف الصروح الشاهقة لوزارة الدفاع خير شاهد على أننا "شعب لا يرضى الضيم ويرضى أن يهلك جوعا ومرضا على أن تنتهك حرماته"، أو كما قال وزير المالية الأسبق "حمدي" في معرض تقديمه لميزانية سنة ما أمام مجلس وطني ما مبررا تخصيص جل الميزانية لأغراض الدفاع.
فعزاء المواطن الوحيد، على صبره علي الجوع والعطش والمرض والجهل، أننا شيدنا مبنى لقواتنا البرية في شكل سفينة ولقواتنا الجوية في شكل طائرة، وأننا نملك يختا رئاسيا "يطول رقبتنا" أمام زوارنا من قادة العالم. ما عليك، إن أحسست بتقصير الدولة تجاهك في مأكل أو مشرب أو علاج، إلا أن تقف أمام سفينة عبدالرحيم وتلتقط صورة تذكارية، يمكنك فيما بعد مقايضتها بالماء والخبز أو إستعمالها كتذكرة دخول للطبيب.
ومايزيد من غمنا، أن هذا المال الذي تبخل به الحكومة على شعبها، فتخصص منه  أكثر من سبعين بالمائة للدفاع و شؤونه، مقابل أقل من سبعة بالمائة للصحة والتعليم مجتمعين، أريتو كان جاب "لبن!"  تامزين. لم يشهد السودان على مر تاريخه أن إحتلت اراضيه من ثلاث دول مختلفه، إحداها أحدث دولة في العالم، وقاد طبيب مجموعة من القوات غير النظامية المسلحة تسليحا خفيفا لمشارف القصر الجمهوري، وجعلت منا إسرائيل أضحوكة وقد صارت أجوائنا لطيرانها آمن من أجواء فلسطين المحتلة.
مشكلة الأنظمة الدكتاتورية عموما، أنها عندما تأتي، تلعن سنسفيل من سبقوها ممن قصروا في حقوق الشعب وأجاعوه وأسغبوه وأذلوه، وتطلب من ذات الشعب أن يلهج لسانه بالشكر لأنها جاءت في الوقت المناسب لنشله من وهدته وإطعامه من جوع وإيمانه من خوف. ثم لا يلبث للنظام الدكتاتاتوري أن "يروح له الدرب في الموية"، وتتغير أولوياته من رفاهية الشعب إلي رفاهية منسوبيه، ومن تأمين الشعب إلي تأمين نفسه من الشعب. الغريب أن جميع هذه الأنظمة تنفق جل ميزانياتها على الأمن والدفاع بدعوى حماية الوطن من الأخطار الخارجية بينما هي في حقيقة الأمر تحمي فسادها وسوء حكمها وحكامها من الشعب، وهي في سبيل ذاك تتقمص روح الوطن وتدعي أنها الوطن وأن الوطن هي، فتسحق في طريقها كل من يقف أمامها بدعاوي التخوين والعمالة واللاوطنية، فهي جميعا لا ترينا إلا ما ترى ولا تهدينا إلا سبيل الرشاد.
جميع الحكومات الرشيدة في العالم تضع رفاهية شعوبها في قمة أولوياتها، ولا تصل حكومة لسدة الحكم إلا بعد تمحيص من الرأي العام لجدية وعودها في ما يليه من تعليم وصحة ومواصلات وغيره. ذات الرأي العام الذي يمتلك حق تغيير الحكومة إن هي نكثت بوعودها في أقرب إنتخابات. هذه للأسف نعمة لا تملكها الدول التي يحكمها "المختارون" ممن إختارهم الرب لا الشعب لحكم شعوبهم.
ولأن كل الطغاة يربطون أنفسهم بالوطن رباطا لا فكاك منه، يقع في إعتقادهم أن ذهابهم يعني ذهاب الوطن، وأن وجودهم قمين ببقاء الوطن وطنا، وأنه لولاهم لتخطفنا الطير وتقاذفتنا الخطوب. يربط بين الأنظمة الدكتاتورية في كل مكان الإعتقاد الجازم بأنها الوحيدة القادرة على تولي مسؤولية الحكم، وأن جميع من سواها قاصر وعاجز. يعتقد الطاغية مع مرور الزمن أنه فقط، لا شريك له، القادر على حكم هذا الشعب المسكين الذي لولاه لإكتنفه الضياع. الغريب أن هذا الإفتراض أثبت التاريخ مرارا خطله، فالقبور مليئة بمن ظنوا أنهم لا غنى لشعوبهم عنهم، فذهبوا وبقيت الشعوب.
لكن الطغاة لا يقرأون التاريخ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.