لم أكترث
كثيراً لِلِمُوع نجم "شيخ اللّمين" و إنتشار أخباره وسيرته حتى كادت أن
تسد علينا السكك. فرغم أنّ "شيخ الليمن" ظاهرة تدعو للعجب من ناحية إتّباع
الكثير من صفوة المتعلّمين له رغم وضوح زيفه، إلا أنّني كنت على يقين أنّه – بكل
ما حوله من زخم- ليس إلّا عَرَضٌ يسير و علامةٌ لا تذكر من علامات ما نحن فيه من
بؤس و إنحطاط حضاري تردّينا إليه ولم نزل منذ أن تسلّط علينا "الحاكم بأمر
الله" و طُغمته.
لا يُمكن
بأي حال فصل ظاهرة "شيخ اللمين" من باقي علامات التردّي المريع الذى
أصاب بلادنا .. فهي متلازمة متعددة الأعراض و الأسباب. "شيخ اللّمين"
مثله مثل "التّدعُّش" و فساد الدولة المصحوب "بقوة عين" و
أطفال المايقوما و إنتشار المخدرات و الأغاني الهابطة .. معالجة أيٍّ من هذه
القضايا بمعزل عن التصدّي لمنظومة الأسباب الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية
التي أفرزتها، يكون كمحاولة القضاء على السرطان بحبّة أسبرين.
الإنحطاط
الحضاري للأمم و تقهقرها في سلّم الأخلاق الإنسانيّة يأتي دائما كنتيجة للإستبداد.
عندما تُسلَب الحريّة من شعبٍ ما أو أمّة، فإنها لا تتوقف عن الصّعود و الإرتقاء
في شتّى مجالات الإبداع الإنساني و العلمي و الفكري فحسب، بل إنّها تعود إلى الوراء. و تبلغ أقصى درجات هذا السّقوط
في وقتٍ قريب من أوان خلاصها.. فلَيلُ الأمّة إنّما تشتد حِلكته عندما يحين بزوغ
فجرها.
الإستبداد
المطلق المرتكز على أيدلوجيا تمنحه الشرعيّة و تُكفّر و تُخوّن من يخالفه، يرى في
كلِّ فكرة سلاحاً يصوّب تجاهه. لا يريدنا أبداً
أن نفكّر بحريّة أو أن نُبدع، فهو دوماً لا يُرينا إلا ما يرى ولا يهدينا إلّا
سبيل الرشاد. و لأنّ الوعي هو ما يجعل الشعوب "تري الملك عارياً"، فإنّ
الأنظمة القمعيّة دوماً ما تجعل من الإستنارة و العلم و أدواتهما ألدّ أعدائها،
تبذل في سبيل سحقها كل ما تستطيع، تُدخل شعوبها ظلاماً تجهد ألّا يكون فيه بصيصٌ
من الضوء .. فمن الطبيعي أذاً أن تنمو الكائنات الطفيلية مثل "اللّمين"
في هذا الجو العَطِن المُعتم.
يعلم
المستبدّون أنّ ليلهم قصير إن هم لم يعمدوا إلى ضرب مراكز الوعي أولاً، و هذا ما
فعله أصحاب المشروع الحضاري عندما عاثوا فساداً في المناهج التعليمية و السلّم
الدراسي و استهدفوا الجامعات و النقابات العمالية و الإتحادات الطلابية و المراكز
الثقافية وشرّدوا قادة الفكر و الرأي و أساتذة الجامعات في أصقاع الأرض. حرص هؤلاء
تماماً على أن ينشأ جيل إنقاذي مشوّه، تقطّعت به السُّبل إلى منافذ الضوء فتخبّط
في الظلام. و في ظلام كهذا تبرز كبدائل زائفة التنظيمات المتطرفة كداعش، و الّلاعبين
بالدين "كشيخ اللمين"، و المخدّرات و عبادة الشيطان و غيرها، و كلّها كمثل
"أبْ لمْبة" الذي يقصده التائهون في ظلام الصحراء حتى إذا أتُوه لم
يجدوا شيئاً بل و أمعنوا في التّيه و الضلال.
على مرِّ
التاريخ كان الإستبداد مصحوباً بعلامات إنحطاط الأمم الحضاري و تحلّلها الأخلاقي و
إنشغالها بسفاسف الأمور و توافهها عن العطاء الفكري و العلمي و الإنساني. في عهد
الحاكم بأمر الله "أبو علي المنصور" إنشغلت مصر بتحريم الملوخية و الجرجير
و منع خروج النساء، و تنافس النّاس على القفز من أعلى القصر و مات منهم ثلاثون في
مسابقة كانت جائزتها "بصلة"، و في عهد السّيسي إنشغلت مصر ب"أبله
فهيتة" و حروب الجيل الرابع و جهاز تحويل الإيدز إلى كفتة. و كما إدّعى "إبن
حيدرة الفرغاني" أنّ الله قد حل في الحاكم بأمر الله حينذاك، إدّعى "سعد
الدين الهلالي" أن السّيسي و محمد إبراهيم من رسل الله و ادّعت صحيفة أنّ
الغيوم قد رسمت صورة السيسي في سماء القاهرة.
و إذا أجلنا
نظرنا فاحصاً في التاريخ، سنجد أنّ لكلّ عهد إستبدادٍ وفساد "شيخ لمينه"
أو "شيوخ لمينه" ممن يستغلّون ما يصاحب القمع و الطُّغيان من ظلام معرفي
و تغبيش للوعي فيزدهر دجلهم و إستغلالهم للدين، يرتقون بهما سلم المجد الإجتماعي و يحوزون
السلطة السياسية و الرّفاه الإقتصادي . فكما ظهر "الفرغاني" في عهد
الحاكم بأمر الله، تمدد الرّاهب "راسبوتين" في عهد نيقولا الثاني حتّى
غدا الحاكم الفعلي لروسيا و من أبرز نجوم المجتمع، و ظهر "أبو جميزة" في
عهد الخليفة عبدالله ففُتِن به النّاس و آمنوا بقدرته على صنع المعجزات، و في زمن
محاكم التفتيش في أوربا قضى الآلاف نحبهم تحت مقصلة الكنيسة الكاثوليكية لأن دجّالا
إّدعى أن له قدرات روحيه مكّنته من معرفة "المهرطقين" ضد الكنيسة.
فالقاسم المشترك هنا هو الإستبداد المطلق و الظّلام المعرفي و تغييب العقل و المنطق
لمصلحة نظام حكم يستمد قوّته و إستمراريته من وجود و ديمومة هذا الإنحطاط الحضاري.
لقد إستطال
ليلُ الإنقاذ فجدبت أرض السّودان و نضبت ينابيع الفكر و المعرفة والإبداع
الإنساني، و لأنّ النبّات "البروس" لا ينمو مع ما ينفع النّاس و يمكث في
الأرض، قَوِي عود أمثال "شيخ اللّمين" ممّن رأت فيهم السّلطة ما يشغل
الشباب عن التفكّر في ظلمها و فسادها و محاولة تغييرها، فالإنقاذ لا تكترث إذا
تدروش الشّباب مع "اللمين" أو تدعّشوا أو تعاطوا "الشّاش" أو
عبدوا الشيطان طالما ظلّوا بعيداً عن تهديد وجودها .. فهي في أحسن الأحوال ساكتة
عن هذه القضايا هذا إذا لم تكن متماهية أو داعمة.
و كما أنّ
الإنقاذ قد أعملت جُهدها في إفقار الشّعب و أسغابه معرفياً و فكرياً، فهي أيضاً لم
تدّخر وسعاً في تجويعه و إفقاره إقتصادياً حتى غدا منشغلاً عنها وعن مستقبل البلاد
بالّلهث وراء قوت يومه، و استطاعت إختزال أحلام الناس وآمالهم في رغيف خبز وحق
مواصلات ورسوم مدارس. و عندما يقترن الجدب المعرفي و القهر السياسي بضيق الحالة
الإقتصادية و إنسداد الأمل في الخلاص يتّجه الناس للغيبيات و يجد
"الّلمينيون" و أمثالهم أرضاً خصبة تزدهر فيها بضاعتهم.
طالما بقي
"حاكمنا بأمر الله" سنظلّ فيما نحن فيه من بُؤس، و ستظلُّ النباتات
الطفيلية تجد لها أرضاَ يباب مات فيها الزّرع النّافع و إكتنفها الظلام. إنّ
"شيخ اللمين" و غيره علامة لمرضٍ عُضال قد أصابنا منذ أن تغطّت بلادنا
بهذا الليل الحالك، و يحدّثنا التاريخ أنّ كلّ أعراض هذا المرض ستفارقها ما أن
تشرق شمسُها من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.