"- من أنت ؟
إني آدميَّة -
أدري -
فلا ترضى البهائمُ أن تكون كجنسنا
أو أن تعيش حياتنا
أو أن تُفكِّر مرَّةً
في الإنحطاط لمُستوى حُكَّامنا
-أختاهُ
ماذا تفعلين، إذن، هُنا ؟
- لا شيء .. أرتكبُ الزِّنى
-أتُفارقين بلادنا
لتُهدِّمي شرف العُروبة
في بلاد عدُوِّنا ؟!
- إني أهدِّمهُ
لأبني في بلادي، من حجارة عفتي،
بيتًا لنا
وبكتْ
فسال الكحلُ في الدمعات .. ليلاً رابعًا
فأذابنا
وأسالنا "
أحزان أصيلة – أحمد مطر
عجبت لتعجّبِنا و ثورتنا على فيديو بناتنا في دبي. فبعضنا، ولا أبرئ نفسي، ينتظر تناقل وسائط التواصل للفيديوهات و التّسجيلات و الصور لنملأ الدنيا صياحاً في الإحتجاج على قضايا نعلم وجودها علم اليقين و لكنّا ندفن رؤوسنا في رمال النّكران و نغمض أعيينا رجاءاً أن نفيق فلا أثر لها. ففي زمن هزيمتنا و إنكسارنا، جبُنّا و عجزنا عن مواجهة عدوّنا الأّول الذي أذلنا من بعد عزّة و أفقرنا من بعد غِنى و "بعثرنا في كل وادي"، فما زلنا منذ زمن نطعن "في ضل الفيل".
و رغم أنه لا يحق لأحد أن يتخذ الفيديو ذريعة لإصباغ أي تهمة كانت على من فيه، و أنه لا شك أن من نشره قد تغول على خصوصيتهم، فقد جعله الكثير منا ذكرى لما تفعله بعض بناتنا في بعض العواصم العربية مما لا يرضينا.
و الذين يبكون على شرفنا المسكوب في أزقّة دبي و القاهرة و غيرهما، يرون القشّة هناك و يعمُون عن الجذع في شوارع الخرطوم و مدننا السودانية. فمنذ أتت لحُكمنا الشياطين في 1989 و أفقرت البلاد و أذلت شعبها، بلغ بؤس العيش في زمن التيه الإنقاذي بالكثيرات مبلغ أن يمارسوا الجنس من أجل المال، و تنامت هذه الظاهرة فشملت كل قطاعات المجتمع من طالبات و عاملات و موظفات، و كان من المحتّم أن يخرج بعض هؤلاء إلى بلاد الدّرهم و الدينار بعد أن أضاق حكامنا عليهم بلادهم بما رحبت.
أتاح لي عملي سابقا في برنامج مكافحة الإيدز الإقتراب من هذه الفئة فعلمت عنها ما تشيب له الولدان. نُعامل – مجتمعاً و سلطة – هذه الفئة كالمجرمين في حين أنّهن ضحايا لظروف بالغة التعقيد، و أجزم أنّه من العسير أن تسير إمرأة في هذا الطريق ما لم تكن مجبرة، تسدّ رمق أطفالا جائعين أو حوجة أمِّ عجوز.
إقترح الكثيرون تشديد الدولة لضوابط سفر النّساء في ما ظنوا أنّه حل لهذه الظاهرة و إنقاذاً لما تبقّى من سمعتنا في ديار الغربة، و لكن هذا الحل كمن يحمل الماء بملعقة شاي ليطفئ ناراً قد عمت سائر أرجاء البيت. فحل هذه الظاهرة ليس في منافذ المطارات أو في حواري دبي، بل هنا في الخرطوم. فظاهرة عمل بناتنا في تجارة الجنس في السودان و خارجه إنّما هي عرض من أعراض كثيرة للتدهور الحضاري الشامل الذي أوصلنا إليه أصحاب المشروع الحضاري، لا تنفصل عن هجرة الشباب عبر مراكب الموت و عصابات المواتر و "الخرشة" و الطفيليين ممن سرقوا قوت الشعب و انتشروا في كل مكان. إنحطاط الحضارة و الأخلاق يصاحب دوماً الفقر الناتج عن سوء إدارة الإقتصاد الذي يميّز حكومات الإستبداد. و لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، فلا يمكن فصل الفساد عن الحكومات الدكتاتورية، ففي وجودها يترعرع و ينمو و يزدهر، وفي ظلالها تنمو طبقة الطفيليين و يقابلها إزدياد الفقراء و إختلال موازين المجتمع و قِيَمه.
ظاهرة هؤلاء البنات في دبي و القاهرة ليست إلا قمة جبل الجليد الرّابض في الخرطوم. فجميعهُن قد بدأن هذا الطريق في الّسودان، و إذا أردنا أن نقضي على هذه الظّاهرة فمنه يجب أن نبدأ، و المسؤولية هنا مشتركة، مسؤولية دولة و مشرِّعين و مجتمع.
مسؤولية الدولة ليس في توفير فرص تعليم و عمل و حياة كريمة لأبناء الشعب من الرجال و الّنساء فحسب، بل و في السماح للجهات المختصة و منظمات المجتمع المدني و دعمها للعمل مع فئات النساء من اللائي أضطررن للعمل في تجارة الجنس من غير تجريم أو توصيم لإعادة تأهليهن كأفراد منتجات في المجتمع.
يأتي بعد ذلك دور المشرِّع – الذى يأتي به الشعب - في تعديل قوانينا الحالية التي تحمل في معظمها عسفاً كبيراً لنسائنا. عندما عملت طبيباً في مستشفى النساء و الولادة في كسلا دخل علينا مرة مجموعة كبيرة من عساكر البوليس دخول المنتصرين و قد إقتادوا إمرأة كسيرة في ملابس النوم طالبين منّا أن نوقع عليه كشف إثبات ممارسة الجنس. سألهم نائب الإختصاصي حينها عن سبب وجود المرأة في ملابس النّوم فقالوا إنّ القانون يحتّم عليهم حمل المتهمين بالزنا في بوكسي الشرطة على الهيئة التي وجدوا عليها و الطّواف بهم في طرقات المدينة و المستشفى و نهايةً إلى مركز الشرطة. طلب منهم زميلنا الفاضل أن يأتوا بملابس المرأة و سترها قبل أيقاع الكشف المطلوب، فتمنّعوا و قالوا أن الملابس في البوكس. أصرّ زميلنا على ستر المرأة المسكينة و قال قولةً ما زال صداها يرن في إذني كلّ حين : " و الله ما تجيبوا ليها هدومها أملص ليها بنطلوني ده". هناك رضخ العساكر و سُتِرت المرأة بعد أن طافت بملابسها الداخلية معظم شوراع كسلا و هي لا زالت بريئة لم تثبت أدانتها.
و كما تقدّم، فإنّ مسؤوليتنا كمجتمع في أن نعامل هؤلاء الفتيات كضحايا لا كمجرمات، و أن تعمل المنظمات و الجهات ذات النشاطات المجتمعية على إستيعاب العائدات منهن في مشاريع مدرّة للدخل، و توفير فرص لتأهيلهن للعمل في مهن شريفة و تعلميهن.
لقد طال ليل هذه العصابة و أسودّ جانبه، و ما فتئوا طيلة ثلاثة عقود حسوماً يمنوننا بالمنّ و السّلوى و أن نأكل من فوقنا و من تحت أرجلنا إن أصاب عبثهم بالإقتصاد، ناسين أنه لا يمكن أن تتوفر عوامل النّجاح لأي إصلاح إقتصادي من غير إصلاح سياسي. ستظلّ كلّ حين تصدمنا ما يماثل فيديو دبي و المنشية ما دام يحكمنا أسوأنا و أرذلنا و أفسدنا و أكذبنا و أجرأنا على الله ممّن يخدعنا في كل يوم بإسمه العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.