للجنرال "صفرجت" قصّة مشهورة عن إرتعادِ فرائِصه حينما رأى تاكسي ليلة الثلاثين من يونيو المشؤوم فحَسِبَه العدو. و لم يتحرَّج – بما عُهِد عنه من خراقة- أن يتمثّل ب "الحرامي في راسو ريشة" في مَعرِض تفسيره لخوفِه من التاكسي و صاحبه.
مخطئٌ من ظنّ أنّ هَوان "صفرجت" و ضِعَتِه و تَلهّفِه لأيِّ إعترافٍ و تقديرٍ كان قد ولّدتها ملاحقته من محكمة الجنايات. القصّة أعلاه تُرينا بجلاء أنّ"صفرجت" يعلم تماماً أنّه قد سرق الحكم و نال ما لا يملكه ولا يستحقه. فهو ما فَتِئَ من تلك اللّحظة يبحث عن من يُلقي في إعتقاده أنّه رئيسٌ شرعي و ليس بسارقٍ و مغتصب، الحقيقة التي جَحَد بها و استيقنتها نفسه وما زال و ما زالت.
أذكر أنّ "صفرجت" سنةَ إغتصابِه للسّلطة قد شارك في إجتماعٍ ضمّه في ليبيا بالأسد و مبارك والقذافي. و رغم أنّنى كُنت بعد على أعتاب المرحلة المتوسطة، فقد لاحظت بجلاء أنّ صاحبنا لم يكن إلا "تمامة عدد" أتى بها القذافي في اللحظات الأخيرة. فقد جلس الأسد و مبارك و بينهما القذافي في شكل مثلث على كنبتين متجاورتين و قد دَنَت رؤوسُهم في حديثٍ كان من الجَلِي أنّه ثلاثي، بينما تُرِك صاحبَنا صامتاً في طرف الكنبة و هو يحرّك رأسه آلياً بالموافقة. و ما إنسحاب الوزراء العرب عند حديثه قبل حين إلا مظهر آخر من مظاهر هوانه المقيم – والقديم – عليهم.
عندما أتَي الإسلامويّون بالجنرال "صفرجت" إلى السلطة كواجهة يسرقون من خلفها البلاد و يسترقّون العباد كانوا يعلمون و كان هو أعلمهم بتواضع إمكاناته الذّهنية و قصور قدراته المعرفيّة و المهاريّة، و أنّ خلوه من الكاريزما هو السبب الوحيد الذى جاء به في غفلة من الزمان على قيادة هذه الأمّة العظيمة، فلَبِث بِضع سنين لا يتخطّى دوره المرسوم ك "كومبارس" حتّى تندّر السودانيون عليه حين تلاوته بيان المفاصلة بأنّه قد "إنتقل من كونه سكرتير للترابي إلى مذيع عند على عثمان". إلا أنّ تذلّل كبار الإسلاموييّن من أمثال إبراهيم أحمد عمر و أمين حسن عمر - و غيرهما من حَمَلة الدّكتوراة و ذوي التّاريخ الطّويل في الحركة الإسلامويّة - له و خَطبِهم ودَّه أوقع في روعه أنّه القائد الملهم الذي بعث الله به لإخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور، و أصيب بلعنة الطّغاة التى تُوهِمَهم بأنَّ إرتباطهم بالوطن لا فِكاك منه، و أنّ ذهابهم يعني ذهاب الوطن، وأنّ وجودهم قمين ببقاء الوطن وطناً، وأنّه لولاهم لتخطّفنا الطّير وتقاذفتنا الخُطوب. و مع مرور الزّمن و تزايد أعداد حارقي البخور، إعتقد "صفرجت" أنّه فقط، لا شريك له، القادر على حكم هذا الشّعب المسكين الذي لولاه لإكتنفه الضياع.
و لأنّ "صفرجت" يعلم في عقلِه الباطن قدرَه الحقيقي و هوانه على غير أعوانه، فهو ما فَتِئ يتهافت لأيّ نوع من التقدير الخارجي. و جاءت إدانته كمجرم حرب من محكمة الجنايات الدوليّة و ما تبع ذلك من زيادةٍ في تحقيره من المجتمع الدّولي و شعوبه و قياداته لتزيد من ذلك التهافت. فالجنرال الآن لا يستطيع التّحرك بحريّة، و ينسحب زعماء العالم المحترمون عندما يطلّ عليهم، بل و يأبى بعضهم أنْ يجلس في مقعدٍ يجاوره و يفضّل أنْ يترك له المكان كما فعلت رئيسة الوزراء البرازيليّة.
لذا، و إزاء تلهّفه ذاك، لم يكُن من المُستغرَب إذاً أنْ يُجَرْ "صفرجت" إلى مواقف مُحرِجة لا تليق به كشخص نصّب من نفسه زعيماً لدولة و يُعرّض بلده و شعبه "للمرمطة" و السخريّة، كفرحه الطفولي بالنصّابة التى أهدته فنيلة "ميسى" و إدّعائه أنّ الّلاعب شخصياً هو من بعثها له وما تَبِع ذلك من فضيحةٍ كبرى عندما نَفَى مكتب الّلاعب الخبر، أو إسراعِه و تنابلة السّلطان لحفلٍ وهميٍّ في إثيوبيا لتنصيبه رَمزاً "للكرامة الأفريقية"، عبر مؤسسة لم تَكُن من قبل ذلك - و لن تكن من بعده - شيئاً مذكوراً، و يبدو أنّ مجموعة من "العَطَالى" قد علمت ظَمَأ صاحبنا المنبوذ من الجميع للإعتراف فقاموا بهذه المسرحيّة الهزليّة و نصَبوا على "صفرجت" ومن معه من ماسحي الجُوخ و نهبوا قدراً غير يسير من مال الشعب السوداني.
المشكلة أنّ "صفرجت" لم يبذل أيّ مجهود لينال إحترام شعبه ليعوّض فقدان إحترام العالم له. فذات الأسباب التي جعلتْه منبوذاً من العالم المتحضّر أفقدته إحترام شعبه الذى يُدرك سرقته للحكم من غير وجه حق رغم تنصيبه مراراً عبر ما تَلى ذلك من إنتخاباتٍ هزليّة، و إكتشف حقيقة تواضع إمكاناته القياديّة و شغفه المَرَضِي بالكذْب على النّاس منذ عهدٍ بعيد. فالجنرال ليس من غير كاريزما تصلح لأيّ شئ فحسب، بل أبى إلا أن يملأ هذا الخواء بمثالبٍ عديدة كضيق الأفق و ضيق الصّدر و الخُلق، فالجنرال لا يصبر على رأي مُخالفٍ حتى من أقرب النّاس إليه، فانفضّ عنه قلّة من أصحاب الرأي، و بَقي من حوله الدّهماء و المنافقون ممّن لا يَرونه إلا ما يَرى و لا يَهدونه إلا سبيل الخراب. فليس من العجب إذاً أن يكون شخص ك "عبدالرحيم" – الذى صرّح أخيراً أنّه مشغول عن ولاية الخرطوم بعمله كسائق خصوصي للرئيس – من أقرب خلصائه و مستشاريه!
و يزيد من تقليل قيمة "صفرجت" عند النّاس كِذبه المستمر و سوقيّته الّلفظية والفعليّة والرّقص الذى أصبح ملازماً له و دالّاً على شخصيته حتى على محرّكات البحث في الشبكة العنكبوتية، يظنُّ فيه تواضعاً و قرباً من النّاس وهو ما قذفه عنهم إلى بعدٍ سحيق، فهو كَمَن يرقص على أوجاعهم و آلامهم التى كان و نظامه و لا زالوا سبباً فيها.
و ربّما كان يُمكن تخفيف مصابنا فيه لو كان صموتاً و رزيناً فالصمت حكم و قليلٌ فاعلُه، لكنّه أبى إلا إيذاء شعبه و إهانته بالكلام السّقيم و الألفاظ السوقيّة ممّا يطلقه كلّ حينٍ على عواهنه، والأمثلة تضج بها اليوتيوب و مثيلاتها، ليس آخرها تصريحه عن كَونَها "صفرجت" و ما سبقه على ذات الشّاكلة من وجوب شُرب معارضيه من البحر.
يعلم الجنرال أنّ وجوده على سدّة السلطة هو الضّمان الوحيد لعدم تسليمه لمحكمة الجنايات، و رغم كذبته البلقاء الموثّقة عن أنّه "لن يكون رئيساً في 2015" فها هو ما زال يجثم على صدورنا حتى حين، يؤذينا بكلامه السّوقي و حمقه و رعونته، يأخذ البلاد رهينةً ليضمن سلامته و يقودها من فشل إلى فشل، يعاونه في ذلك مجموعة من المجرمين ممن بَنُوا قصورَهم و فارِهِ دُورهم على أنقاض الوطن، لكنّهم يعلمون جميعا أنّهم على الجانب الخطأ من حركة التّاريخ، وأنّ يوم الحساب لا محالة قادم، نراه قريبا وإنْ رأوْه بعيداً.