زهاء ثلاث
سنوات مضين بعد آخر "ولد شلتنا"، وها نحن من جديد نبدأ من حيث إنتهى بنا
الحديث، خالد صديق، خالد نيالا سابقا..
وقد كنت
قد عزمت على أن أقُل في خالد ما قاله وما لم يقله مالك في الخمر وأن "أدّيلو بالحتة
الفيها الحديدة" لكنّي نكصت عن عزمي طمعاً لا خوفاً، فخالد قد "تبوّأ"
الآن منصباً كبيرا في اليونسيف، ولما كانت الأخيرة من المنظمات التي يتوق من هم
على شاكلتنا من ناس الكمونيّة للعمل بها فلم يكن من الحكمة إذا ألّا "أقدم
السبت" طمعاً في "أحد" خالد!
الطريف
أن خالداً نفسه قد ذكّرني أن "القصة دي واقفة فوقو" وأن من الأفضل
لراؤول، الذى كان قد ذكر حتة "لغاويسه" في جلسة جمعتنا قبل شهرين
بالخرطوم، أن يتجنب تذكيري بها خشية أن يقع المحظور وأتملّك – كالجيش السوداني-
زمام المبادرة من جديد!
عرفنا خالد منذ السنة الأولى، وإن شئت الدقة
فلتقل أنه لم يكن لدينا خيار سوى أن نعرف خالد! فقد كان خالد سياسياً ناشطاً منذ
بواكير حياته في المدرسة الثانوية، ولعل خالد من القلائل ممن جاءوا إلي الجامعة
برؤية واضحة ومسار محدد، عكس الكثيرين ممن بحثوا عن ملاذات فكرية وسياسية بعد
إحتكاكهم بالجو السياسي في الجامعة، فمنهم من وجد بغيته ومنهم ومن ينتظر..
جئنا إلى
الجامعة وقد وقع معظمنا أسيراً "للبروباقندا" الإنقاذية التى جعلت من
الحزب الشيوعي منظمة أقرب للمافيا ومن الشيوعيين كائنات سافكة للدماء وآكلة للبشر.
نجح خالد وشباب الجبهة الديمقراطية الآخرين من أولاد دفعتنا في عكس صورة مشرقة
للشيوعي وأحبّهم الجميع بمختلف إنتماءاتهم السياسية والدينية. وربما ذلك يرجع لأن
المنتمين للجبهة الديمقراطية في دفعتنا كانوا من صفوة القوم، وكنا محظوظين بوجود
شباب مثلهم زي الورد، تجدهم في السراء والضراء ويسندون قفاك حين الملمّات.
والغريب
أن خالداً، رغم شخصيته المرحة وعلاقاته الإجتماعية اللامحدودة، قد نجح في إحاطة
إنتمائه للجبهة الديمقراطية بكثير من السريّة، فحتى الآن لا نعرف على وجه الدقة
نحن ما كان يفعله خالد في الجبهة الديمقراطية، فنحن نعلم مثلا أن الشيخ كان كادراً
خطابياً مفوهاً لا يشق له غبار، و لابد أن سيف كان مسؤولا عن الجريدة (غالباً
معاهو ميادة، أمسك الخشب، هذه أسرار تنشر لأول مرة!)، أما خالد فلا أعتقد أنه كان
"كادر عنف" –إن وجد هذا المسمّى- مثلاً!
يحفظ لخالد أنّه كان حريصاً على تطبيق الفكر التقدمي
وتوجيهات التنظيم حتى على مستوى حياته الخاصة، كان شخصي شاهداً على حادثة طريفة..
فقد كنا متحلّقين في مدخل كافتريا طب ومعنا خالد، فإذا بأحد الكيزان المشهورين
(ووجه شهرته أنه كان "بيحوم" بالكاكي في الجامعة) وقد يمم صوب شلّتنا
ماداً يده بالسلام، فحدجه خالد بنظرة نارية أربكته فسحب يده المدودة بالسلام وولّى
هاربا صوب دكان أمين ولم يعقب! كان ذلك في أوج تداعيات إستشهاد محمد عبدالسلام
والمقاطعة الإجتماعية للكيزان والتي أجزم بأن خالد كان دقيقاً لأبعد الحدود في
تطبيقها!
الحادثة
الثانية كانت أيام أن شكّل بعض أبناء الجنوب عصابات صغيرة جابت الأزقّة المجاورة
لكمبوني وبنك الخرطوم، إتخذت هذه العصابات أسلوب نهب واحد: يحتك بك أحد أفرادها
ويختلق مشكلة من العدم، فيهرع بقية أفراد العصابة ويتحلقوا حولك مُرغين ومزبدين،
وبعد أن ينجلي الموقف تكتشف فقدان جزلانك والموبايل. وقد (إتزنق) صديقنا شريف ذات
ليلة مع مجموعة من هؤلاء قبالة بنك الخرطوم، أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم وضاقت
عليه الأرض بما رحبت. لكن شريف إتّبع إستراتيجية ناجعة، فأثناء إحتداد النقاش إتخذ
هو وضعا قتالياً أوهم مهاجميه أنه سيقاتل فإبتعدوا قليلا ليستعدوا للموقف الجديد
ويتحرّفوا للقتال، فانتهز هو الفرصة وأطلق ساقيه للريح تجاه حسيب والرازي!
المهم أن
خالد ومجموعة من الصحاب كانوا سائرين ليلا قرب ملاعب كمبوني فاصطدم أحدهم بخالد و
إتهم خالد بأنه قد صدمه متعمداً. وأثناء النقاش بدرت من المهاجم كلمة بمعنى أن
خالد قد صدمه من باب "حقارة أولاد العرب" فأضاف بذلك "بعداً جديداً
للصراع"!
أخبرني
الصحاب أن خالد بعد ذلك نسي الموضوع برمته ومسك في الحتة الأخيرة دي، وما فتئ
(ينقنق) من مكانهم ذاك حتى وصولهم مكان المواصلات أن كيف يتهمه هذا بهكذا تهمة وهو
قد أنفق عمره منافحاً عن مبادئ تقف ضد هذه السلوكيات وصائناً لها.
ورغم إنّ
خالد يعطيك الإحساس أحياناً بأنه (ما جادّي) إلا إنه على النقيض تماما، فقد أفلح
في رسم مسار محدّد لحياته نجح في إنجازه وما زال، في وقت ما زال فيه كثير من
رفقائنا يتلمسون خطاهم الأكاديمية والحياتية. فخالد لا يضع السيف في موضع الندى
أبدا،ً وللحلم عنده أوقاتاً وللهظار والشلة مثلها، لذا كان خالد أوّل من بدأ
التخصص من شلتنا وأول من إقتنى حديدة (وقد كانت فعلا حديدة!) في الإمتياز وأوّل من تزوج وكون أسرة. ولنا مع
حديدة خالد الأولى تلك ذكريات طريفة، منها قصة إكتشفت منها أن لخالد حصيلة لا بأس
بها من الأحاديث الشريفة! ذلك أن خالد كان مبتدءاً في السواقة وكنا معه في مشوار
ما في شارع محمد نجيب، فمر من أمامه مشاة وطلبوا منه الإنتظار لحظة ريثما يقطع
آخرهم الشارع، فتوقف خالد بعد لأي وجهد (لعاملين: "كعكعة" العربية، و"كعكعة"
سواقة خالد)، فنظر إليهم شذراً وقال "والله لوتعلمون ما أعلم"!
وقد كان
خالد أول من يمم شطر الكميونيتي من دفعتنا، وكما ذكرت في (في تقريظ الكمونية
وناسها) فإنّنا تمنينا دوما أن تُعَز الكمونيّة بأحد الخالدين الشيوعيين: خالد
صديق أو خالد طوكر. وكنت دائما أقول أن الكميونيتي من أفرع الطب التى لا يصلح فيها
ولا يبرز إلا أناس بكاريزما معينة، وأنّ وجود جيل جديد من الأطباء المؤمنين بها العالمين
بعلومها والمكرسين وقتهم وجهدهم لها كخالد
صديق قمين برفعها من وهدتها في السودان.
وقد يمّم
خالد شطر الجامعة الأمريكية في بيروت ومكث عامين أو زهاؤهما ينهل من علوم
الكميونيتي برفقة الماء والخضرة وغيرهما! وكما ذكرت من قبل، فلمّا كان خالد الأسمر
الوحيد في الجامعة فقد خشينا أن يجعل ذلك منه محطاً لأنظار الصبايا! ولعل ذلك قد
كان حتى أنقذه الشيخ- الأسمر والسنقل في آن!
وأيّام لبنان نصبت لخالد مقلبا ًمحكماً أفلت منه
بنجاح منقطع النظير. فقد طلبت من إحدى زميلاتنا اللبنانيات (أيّام أمريكا) أن تتصل
بخالد في لبنان:
زميلتنا:
هلا خاااالد إيش لووو ونك
خالد في
الإسبيكر: أهلاً (بكون كان مطيّر عيونو في اللحظة ديك)
زميلتنا:
معك ريتّا. مالك ماعام تظهر، إشتئنالك!
خالد:
أو.. أو؟ (صوت إستفهامي يصدر من الحلق)
زمليتنا:
الشلة الليلة حيتلاؤو، حنشووووفاااااك؟
خالد:
آآآ؟ (صوت إستنكاري يصدر من الحلق .. أيضاً)
المفيد
أن خالد لم ينبس ببنت شفة طيلة الحوار، ولكني على يقين أنه لم يستشف أن وراء
المكالمة مقلباً ما فالبنية كانت بارعة في التمثيل ، ولعله أراد أن يشوف
"نهاية البت دي شنو"!
وكما
تقدم، خالد الآن زول كبير في اليونسيف، كسرنا له من التلج في هذا المقال ما شاء
الله لنا أن نكسر، عسى أن يرمقنا "بالعين الخالية من التنشين" –التعبير لعبدالله
الجنيد- ويشملنا بعطفه! وهو كذلك أبو ريل
والتي ورثت جبهة خالد صديق المميزة، وسمرة (دبورتين يعني)، ومازال يخصص وقتاً
للشلة، فأمسياتنا لا تسقيم إن لم تبدأ
بسلام خالد المميز (والذي لا ينصح به أطباء السلسلة الفقرية) وونسته العذبة.