تألمت أشد الألم عندما نمي إلي نبأ إقالة أستاذي د. مصطفي إدريس من إدارة جامعة الخرطوم. كنت – عند تعيينه- قد حمدت الله علي أن أهل الإنقاذ ورئيسها قد أصابهم الرشد أخيرا فوضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب، فدكتور مصطفي إدريس من أبناء الجامعة المخلصين ومن أحدب الناس عليها، كما عرف عنه قربه من طلابه وتواضعه وعلمه الجم وعمله الدؤوب، فعندما كان في شعبة الكيمياء الحيوية كان الأستاذ الوحيد الذي نراه في الجامعة معتكفا في مكتبه ومعمله إلي ساعات متأخرة من الليل.
قبل زمن كنت قد عرضت علي أستاذتي بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية حيث أدرس، وهي في ذات الوقت مديرة لمؤسسة خيرية كبيرة تعني بصحة الأم والطفل، مشروعا لإنشاء مركز متخصص في جامعة الخرطوم ، مولت مؤسستها شبيه له في دولة أفريقية،علي أن ينشأ بعد رفع العقوبات. كنت أعول كثيرا علي وجود د. مصطفي علي إدارة الجامعة في إنجاح هذا المشروع، لعلمي برجاحة عقله وبعد نظره. عندما علمت بنبأ الإقالة، بعثت إليها برسالة مفادها أن رئيسنا الهمام قد قرر فجأة إقالة مدير الجامعة الذي كنا نعول عليه في مشروعنا ذاك . قالت وقد ألجمتها المفاجأة (يا إلهي! تخيل لو أن ذلك حدث هنا. لن يكون بمقدور أي من الأساتذة العمل في ظل مفاجأة مزرية كهذه. لكنها أيضا علامة جيدة لكي لا نستثمر في بنية تحتية لبرامج يمكن أن تنهي بهذه الفجائية).
وهكذا، كعادته، يبرهن السيد الرئيس للعالم مدي الفوضي وعدم الإتزان الذي تدار بهما أمة عظيمة كالسودان. وقد كنت قرأت مقالات أستاذي د. مصطفي التي خاطب بها الرئيس، وحزنت جدا لعلمي أنه إنما ينفخ (في قربة مقدودة). فالسيد الرئيس الذي يحكمنا منذ أن كان شخصي بالمدرسة الإبتدائية- لا يرينا إلا مايرى ولا يهدينا إلا سبيل الرشاد.
يقول الدكتور مصطفي في أحد مقالاته (.... فهل صحيح أنك الآن بعد أكثر من عشرين سنة في السلطة يصعب نصحك أو التصريح برأي مخالف أمامك، وهل صحيح أنه يستحيل أن تغير رأياً أو قراراً بعد اتخاذه إذا لم تتم التهيئة لذلك عدة شهور). وهنا يلخص د. مصطفي بصورة دقيقة شخصية الرجل الذي أمسك بتلابيب هذه الوطن أكثر من عشرين عاما. فلو كان الرجل يستمع لآراء الآخرين، كمستشاريه كثيري العدد والعدة، لما صارت البلاد إلي ما صيرها إليه من بؤس، ولما جعل منا أضحوكة بما يأتيه من أقوال وأفعال علي شاشات التلفاز، يبدأ فيها التهديد والوعيد والرغي والزبد وإطلاق الكلام علي عواهنه، ويختمها بالرقص علي أنغام الأناشيد، حتي صرنا نتوارى خجلا إذا أطل رئيسنا علي شاشة من شاشات المحطات العالمية لئلا نسأل السؤال الذي يخطر علي بال كل عاقل : (لماذا يفعل رئيسكم ذلك؟) . وقد لازمتني حيرة طويلة حول هذا الأمر، إذ أنني وجدت من الغريب ألا يقوم أحد من بقي من العقلاء في هذا النظام بالإسرار إلي الرئيس أن ما يفعله لا يليق بوقار وهيبة الدولة، ولكن زالت حيرتي بعد قراءتي لما أضافه د. مصطفي حول ضيق صدر الرئيس إلي ما نعلمه سلفا من ضيق أفقه.
وقد أشار د. مصطفي لإختيار الإسلاميين للسيد الرئيس لأسباب ذكرها ومنعه أدبه الجم من ذكر السبب الأول، وهو أن عراب النظام قد آنس في شخصية السيد الرئيس ضعفا واضحا في الكاريزما القيادية والحصيلة المعرفية والحنكة السياسية، فقدمه ليسهل عليه توجيهه من بعد، وقد وصفه من زمن بعيد بأنه (هدية من السماء). ولا أدري ماذا يسميه الآن بعد أن قذفته هدية السماء إلي جوف كوبر عدة مرات.
ولو كنت مكان الرئيس- بما نراه من ضعف بين فيما قسمه الله له في الكاريزما والقدرات- لأصبحت من القلائل الذين يلزمون القول المأثور (الصمت حكم وقليل فاعله)، فهو ليس المحجوب أو الصادق المهدي ليصر ذاك الإصرار الغريب علي إرتجال الخطب والقرارت، والتي دائما ما يأتينا فيها بالعجائب، وللزمت نصح مستشاري لا أحيد عنه قيد أنمله. فقد رزئت البلاد بما يكفي من القرارات الإرتجالية وإلقاء الكلام علي عواهنه أمام العالم. كنت في السنة الثانية بكلية الطب عندما خرج إلينا الرئيس ليلة قصف (الشفاء) ليخبر العالم كله أن الصورايخ التي ضربت المصنع كانت من طراز (مية وإلفن). أما عن العبارات السوقية و(الدراريب) فحدث ولكن بكثير من الحرج. فناس المحكمة الجنائية مثلا (سيبلعوا قرارهم ناشف) و (كديس ما بنسلموا لأكامبو) و (القرار موصوهو وأشربو مويتو) وغير ذلك كثير. ولعل السيد الرئيس لايدري أن العالم يتابع و يسجل ويحلل ويبني وجهات نظره علي مايراه ويسمعه من (حلايف) علي الهواء الطلق وقرارت أمام الغوغاء يتم التراجع عنها بعد حين، وكلام علي شاكلة (بعد أنفصال الجنوب مافي كلام خارم بارم بتاع تعددية ثقافية) أو شئ من هذا القبيل، وأراهن علي أن السيد الرئيس لا يفهم معني التعددية ولا يعي أن كلامه هذا سيجر علي البلاد فتن كقطع الليل المظلم.
ولم أستغرب حديث الدكتور مصطفي عن قرارات الرئيس المجحفة فيما يخص جامعة الخرطوم، فهو لم يكن الأول ولن يكون الأخير. وقد كتبت مقالا في صحيفة الصحافة قبل سنين بعنوان (الإنقاذ وجامعة الخرطوم- حشف وسوء كيل) عددت فيه من الشواهد التاريخية ما لا يحصي عن إستهداف النظام للجامعة عن عمد، حتي أنهم كادوا،وقد قرأت ذلك بصحيفة الإنقاذ الوطني وأنا بالمدرسة الثانوية، أن يحولوا إسمها لجامعة (الشهيد). وأصابني يومها غم عظيم، فقد ظننت أن الجامعة التي جعلت من دخولها أمنية حياتي ستتلاشي من الوجود.
يكشف لك ما يتخذه الرئيس من قرارات وما جاء في مقالات د. مصطفي عن السبهللية التي تصدر بها القرارت الجمهورية وكيف أن السودان للأسف الشديد علي بعد سنين ضوئية من دولة المؤسسات، وأنه يدار بمزاج الرئيس الذي يصدر القرارات بناءا علي إعتبارات شخصية وعلاقات مع إشخاص يوعزون له بها لخدمة أهداف أبعد ماتكون عن مصلحة الوطن، والأنكي من ذلك أن هذه القرارت العشوائية لا يتم التراجع عنها لأن الرئيس صعب المراس ولا يحب أن يراجع في قراراته حتي من قبل أقرب الناس (راجع مقالات د. مصطفي)، وكأنه يدير زريبة بهائم او مزرعة خاصة به ورثها عن أجداده وليس دولة عظيمة حكمها من قبل رجال بقامة الأزهري والمحجوب. وقد علم الكثيرون من أصحاب المصالح هذه النقطة فأتبعوا مؤسساتهم لرئاسة الجمهورية وإستصدروا من القرارات ما تغولوا به علي حقوق البلاد والعباد، وصندوق دعم الطلاب ليس ببعيد.
ولعل د. مصطفي يذكر كيف أن السيد الرئيس قد ألغي بجرة قلم التخصصات الطبية بجامعة الخرطوم لصالح مجلس التخصصات الذي أفلح القائمون عليه آنذاك في كسب الرئيس إلي صفهم وأتبعوا مجلسهم إليه مباشرة قافزين علي وزراتي التعليم العالي والصحة. وعندما صدر هذا القرار الكارثي الذي وأد مجاهدات رجال عظماء من أساتذة جامعة الخرطوم ممن أفنوا عمرهم لتطوير التخصصات الطبية وإستطاعوا أن يجلبوا لها الإعتراف الإقليمي والدولي، تدخل الكثيرون لإثناء الرئيس عن قراره بلا طائل، وقد حكي لي أحد أساتذتنا في كلية الطب أن وفدا رفيعا من أساتذة الكلية الأجلاء قد إجتمع بالرئيس لمحاولة إثنائه عن القرار. وبعد أن تحدثوا مليا عن القيمة التاريخية و الأكاديمية لها ذكروا أن هذه التخصصات الطبية معترف بها من الكليات الملكية في إنجلترا. فقال الرئيس- وكان هذا اللقاء في التسعينات- (هم الإنجليز حكومتي ذاتها ما معترفين بيها، يعني شنو لو ما اعترفوا بي تخصصاتكم دي؟) ألم أقل لك أستاذي مصطفي إدريس أن القربة مقدودة؟
كنت أتمني أن يتعظ السيد الرئيس بما حدث لبن علي ومبارك، وأن يدرك أنه قد مكث في كرسي الرئاسة زمنا طويلا وقد آن له أن يترجل، ولكن تبارى أهل النظام بما فيهم الرئيس نفسه في كشف مساوئ مبارك من نهب للمال العام وتفشي المحسوبية وتفننوا في إقناعنا بإختلاف نظامهم كليا عن نظام مبارك، وكيف أن الحرية متاحة للجميع وأنهم لن يهربون إن ثار الشعب بل سيخرجون له ليرجمهم بالحجارة، وغيره من الكلام المضحك المبكي الذي يثبت أن السيد الرئيس وأركان حكمه يعيشون في جزيرة معزولة لا يقرأون الصحف ولا يشاهدون التلفاز ولا يمرون بطرقات المدينة أو إنهم يكذبون ويتحرون ذلك الكذب ويصدقونه من بعد.
أن ما فعله الرئيس مع مدير جامعة الخرطوم لهو غيض من فيض الطريقة الرعناء التي ما زال يدير بها البلاد منذ حين، وأعتقد أنه قد آن الأوان له أن يذهب، فهويزيدنا يقينا كل يوم أنه ليس بقامة هذا الوطن، وإن ما قسمه الله له من مقدرات يقصر بكثير عن ما ساقته الأقدار إليه من مسؤولية.