الثلاثاء، 25 أغسطس 2015

حسن إسماعيل: الصعود إلى أسفل


لم أكتب مقالاً و أنا أتجرع هذا القدر من المرارة منذ هبّة سبتمبر و مجزرة شبابها الغض. مدهشٌ كيف أن خبراً صغيراً كتعيين وزير في حكومة ولائية يمكن أن يقذف بك بسرعة في سحابة من الحزن و اليأس.
لم يكن حسن إسماعيل أول معارض يلتحق بالإنقاذ و لن يكون آخرهم .. لكن الوجع الذي رافق فجيعتنا في حسن يتجاوز شخص حسن نفسه ليضعنا وجها لوجه أمام ما كنّا ندفن رؤسنا منه زمناً طويلاً ..ذلك أن أزمة المبادئ و الأخلاق ليست حكراً على سياسيّي النظام .. وأنّ الحاكمين و المعارضين هم على حد سواء في الإنتهازية واللا مبدئية و التشدّق بالشعارات قولاً و النأي عنها في الأفعال. إستوزار حسن سطّر فصلاً جديدا في فصول خيبتنا و يأسنا من بديل صالح و أملنا في من يخلّصنا من غيابت ما نحن فيه من جُب.
ما حدث لحسن إسماعيل دلالة على أنّنا لبثنا زمنا نحرث في البحر .. و أنّه ليس لدينا ما نعوّل عليه أو من نعوّل عليه، و أنه ليس ثمة أي ضوء في آخر نفقنا الطويل و ما من نهاية لليلنا الحالك.
ما يجعل إستوزار حسن و إلتحاقه أخيرا "بالمسيرة القاصدة" أكثر ألماً دون غيره من المعارضين ممّن باعوا أنفسهم للإنقاذ أن حسناً "واحد منّنا" .. هو من ذات الجيل الذي شكّل وجدانه ضد النظام بطش كيزان التسعينات و عبثهم في جامعة الخرطوم وغيرها .. و كان حضورا لإستشهاد محمّد عبد السلام و إحداث أخرى جسام. . لم يكن حسن حينها متفرجاً بل قائداً للصفوف، عرفناه خطيباً مفوهاً و معارضاً شرساً أنفقنا زمناً في سماع خطبه و خرجنا على إثر بعضها للشارع نشاركه الهتاف ضد من يشاركهم الآن الموائد .. كان معنا في الكافتريا و الداخلية و المظاهرة، و ساعة تبدأ الأركان و ساعة السمر بالليل.
ما حدث لحسن يجعلنا نتساءل من منّا محصن  .. و من التالي .. و هل من مناعة بقيت للمعارضين تمنعهم من اللحاق بالرّكب إذا كان من سد علينا السكك بالشعارت و ملأ علينا الفضاء بالخطب قد إنتهى إلي هذا المصير؟
 سقوط حسن ينسف ثقتنا بالجميع .. فهل كلّ معارضتنا وسيلة لمثل ما أدركه حسن؟ و هل في كلّ معارض منا حسن مستتر ينتظر إهتبال أول فرصة؟
تقرأ ما خطّه حسن لحين قريب فلا تصدّق لما إنتهى عليه .. تسمع خطبته في سرادق الشهيد صلاح سنهوري فتستعجب في قدرة الإنسان على التحوّل هكذا من نقيض لطرفه قبل أن يرتد إليه طرفه ..
لا أدري ما هو الحكم المحلي الذى أستوزر فيه حسن، لكنّي على يقين أنه لن يكون سوى خشخيشة أخرى في يد النظام سيقذف بها بعيداً بعد نفاذ أغراضها، و التي من أولها ضرب مصداقية المعارضين و بيان إنتهازية من كان يعد من أشرسهم .. فلا أظن أنّ إختيار حسن تحديداً قد تم إلا لهذا الغرض.
 الغريب أن حسن كرّر نفس أسطوانة من سبقه من معارضين ممن إلتحقوا بالرّكب قائلا أنه سيستغل موقعه -كوزير منسي في وزراة منسية- "لنصح" النّظام! فليبشر النظام إذاً بطول خطل منهجه و فساده و إستبداده.
محبط أنا و يائس .. و حزين لأسر شهداء سبتمبر الّذين رأوا من صدح "بكلمة الحق" قبل زمن قريب في سرادق أبنائهم -لا يخشى فيها لومة لائم- و قد أصبح في زمرة قاتليهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

الأربعاء، 29 يوليو 2015

ناس الحكومة: ما طارين الموت



رغم مصارعهم الشنيعة تتري واحداً تلو الآخر، فإنّي علي يقين أنّ مشكلة أهل الحكم الحقيقية أنهم ما طارين الموت .. يظلُّ الموت بالنسبة إليهم شيئاً يحدث لجارهم المُسن في الحلة او لجندي تعس قذفوا به في أتون حروباتهم التي لا تنتهي. إذا كانوا طارين الموت ..فقل لي بالله عليك ...لماذا ما زالوا - وكلهم قد جاوز الستين - يكنزون ذهب الشعب و فضّته؟ و لماذا ما زالوا يتطاولون في البنيان بينما تقصر آجالنا بالسقم و المسغبة؟ و لماذا ما فتئوا يتّخذون من النّساء مثني وثلاث و رباع  بينما يتّخذ بعض رعاياهم الجبال بيوتاً و سكناً خشية حمم السماء تصُبّها أنتنوفهم؟

أحتار أنا كيف ينام خليفتنا في الأرض و قد أحلّ زبانيته دم المسلمين في بلادنا فقتلوا النّاس قبايل العيد و أخفوا قبورهم؟ كيف يضحك ملئ شدقيه وقد دفنت قنابله النّاس في جنوب كرفان فلا بواكي لهم ولا قبور تُزار؟ كيف يطرب و يرقص أمام النّاس و قد أثكل في سبتمبر مائتي أمٍّ، لا يخشي أن يصيبه دعاء إحداهن في جوف الليل؟

طال أمد حكمهم فقست قلوبهم .. و ما تزال تقسو ما إستطال بهم ليلنا. نسوا الله و قد رفعوا إسمه زوراً شعاراً لحكمهم فأنساهم أنفسهم. كان إخوانهم في بادئ الأمر ينشدون أن من جماجمهم تُرسي زواياه، فانتهي الأمر بأصحابهم أن أرسوا طريقاً-لهم لا لله- من جماجمنا. و سيظل بنيانهم الذي بنوا من دم شعبهم، دوماً ريبةً في قلوبهم، فهم يخشون حساب الشعب يوم أن يكشف الناس ما قدّموا، و ينسون يوم الحساب الاكبر. يحسبون كل صيحةٍ عليهم من رعيتهم هم العدو فيريقون في سبيل إسكاتها الدّم الذي حرم الله.

منذ أن جاءونا قبل ربع قرن، ما زالوا في كل يوم يخادعوننا و يخادعون الله و ما يخدعون إلّاأنفسهم. يدّعون أنّهم مايريدون إلا الإصلاح ما استطاعوا و يسلكون عمداً سبل الإفساد و الفساد. يهتفون أن هي لله في كلِّ حينٍ و تعلم أنفسهم أن هي إلّا لهم سلكوا في سبيل إغتنامها كلّ طريق و داسوا علي كل مقدس. لا يستحي هامانهم أن يخرج علي الناس بعد ربع قرن من إسغاب الشّعب و سحقه باسم الله فيقول أنّهم  ليسوا بمطعمي الناس من جوع و إنما مقصدهم أسمي و أجل .. يكذب ساكن الرياض ذلك الذي لم يبت الطّوي مرّةً ولم يبكي عياله من الجوع و المرض أبداً و يتحرّي الكذب، ويظن أن النّاس ما زالوا يصدّقون هراءه و أصحابه .. كذب النّاس منذ أمدٍ بعيد بدجل أهل السّلطة و استيقنت أنفسهم أنّهم ما جاءوا لمقصدٍ جليل، و علموا أنهم يقولون مالايفعلون و يبدّلون دين الناس كما يشتهون و يُظهرون في الارض الفساد.

مذ أن جاءوا و إدّعوا الإصلاح ما برحوا ينقُضون غزل الوطن من بعد قوةٍ أنكاثاً لينسجوا غزل ما جمعوا من سحت .. فضاعت سودانير و مشروع الجزيرة و النّقل النهري و باعوا ماسبيو و غيرها بأبخس الأثمان و قبضوا العمولات فهدموا ما بنى من قبلهم و جلسوا على تلةٍ من خراب.

و قد كان أهل الحكم أولى من غيرهم بالإعتبار مما يصيب رهطهم، فقد غرق منهم من أغرق قلب أمّ مجدي بالأحزان و عينيها بالدموع، و أحترق من حرق جوف أمهات و أبناء شهداء رمضان .. أصابتهم دعوة مظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فأصبحوا أثراً بعد عين .. لم تنبئ مصارعهم السيئة تلك جماعتهم بأن يرعووا فيتّقوا من يمهل ولا يهمل و دعوات من ظلموا و أثكلوا وشردوا.

و لما كانوا لا يزالون في ضلالهم القديم بأنهم جندٌ للقرآن فما فتئوا يقتبسون جلّ حديثهم منه، يلبسون الحق بالباطل، فقد جاريناهم في هذه المقالة، فهذه بضاعتهم ردّت إليهم. عسي ربنا أن يفتتح بيننا وبين أراذل قومنا هؤلاء بالحق وهو خير الفاتحين.

السبت، 20 يونيو 2015

"لييته" ما علينا .. في ألعاب زمننا الجميل



"لتعلم أنّ هذا الجيل في أزمة .. إسأل نفسك متى كانت آخر مرة رأيت فيها كورة شرّاب" -  مفكر سوداني مجهول!

"ليييته ما علينا" .. عندما يهتف يها أحدنا جذلاً ماطّاً حروفها ما شاء الله له أن يمط، يضيف إليها أحيانا "لا رجوع"، كانت إشارة على حدثٍ مهم، وهو إكمال فريق الصّائح رصّ عمود علب الصلصة قبل "موتهم" أجمعين .. تبدأ الحكاية بكرة الشراب و قد أصابت العمود المكوّن من عِلب الصلصة الصغيرة الحمراء فمزّقته شرّ ممزق و بعثرته في كلِّ مكان  .. يتفرّق بعدها أعضاء فريق الضّارب و ينتشرون في الأرض قدر ما تسمح به مساحة الزقاق المنحصر بين حيطة بيت جدي البدري وبيت ناس دكساوي، و يحاول أعضاء الفريق الخصم إصطيادهم بكرة الشّراب الواحد تلو الآخر قبل إكمالهم رصّ العليبات ..لذا كان كلّ فريق حين تحضُرنا القسمة يحرص على أن يعضّد صفوفه بمن إشتهروا بأنهم نيّاشين .. لا تملك أن تفلت من أن تصيبك كرة شراب يقذف يها أحدهم في إتجاهك مهما راوغت و جريت.. يرسلها كالصاروخ في إتجاهك فتصيبك في ظهرك و تُقذف بك خارج المنافسة ..

و "ليته"، نقولها إختصارا ل "كومبليته" –غالباً من  complete -واحدة من ألعاب عدّة شكّلت وجدان طفولتنا في الثمانينات ..نجتمع بعد الغداء في زقاقنا أو في غيره -فهم كثر- يوم ما زال الأطفال يتّخذون الشارع ملعباً و منشطاً و مكاناً للسمر و أحياناً للمذاكرة .. نجلب كور الشرّاب المصنوعة من شرابات أهلنا الموظفين بالدولة و المحشوة بالدلاقين و كلّ ما كان في متناول يد صانعها، ففي زمننا لم يكن من السّهل أن تجد شراباً قديماً في الكوشة .. فقد كان لجيلنا الفضل الكبير في "إعادة تدوير" الشرّابات و عِلب الصلصة و حجارة البطًارية و كل ما وقع في إعتقادنا صلاحه في ألعابنا ..

و لم تكن "ليته" وحدها مما نلعبه بكرة الشرّاب و عِلب الصلصة، نساهم بها في نظافة الحلة و إعادة إستهلاك قمامتها، فبكرة الشرّاب لعبنا "الصبّة"، و قد برع فيها محمد حسن و بلغ فيها شأواً جعله لا يُغلب ولا يُنافس .. فقد كان "لقّافاً" لكرة الشراب حين كونه "العولاق" .. و العولاق في لعبة "الصبّة" يكون في منتصف لاعبين يقذفانه بكرة الشرّاب .. فإذا أصابه أحدهما فقد مات .. و إن "صبّ" الكرة أي لقفها فد منح "روحاً" جديدة تتيح له الإستمرار في اللعبة .. و قد كان لبعضنا كمحمد إبراهيم و سيف دكساوي ضربة يتحاشاها الأشاوس ..تلقاك في ظهرك مدبراً غير مقبل "فتموت" و تخرج و يبقى الألم لساعات .. "فميتةٌ" هي و خرابُ قميصٍ و ألمٌ في الظهر ..

أما "روندسة" فقد جلبها لنا النّضيف السّر من عطبرة .. و كان جلبُها فتحاً مبيناً لما فيها من إختلاف عن نمط ألعابنا السائد حينئذ .. و أزعم أنّها تقليدٌ للرجبي أو كرة القدم الأمريكية، ينقسم فيها الناس لفريقين .. يلقي لاعبان من الفريق الأول كرة الشرّاب لضرّاب الفريق الثاني فيضربها بكل قوته في إتجاه الميدان "حوش الشوش" .. فإن لقفها لاعبو الفريق الأول يموت لاعبو الفريق الثاني المنتشرون على الخط المصنوع من الرماد أو حَفر الأرجل .. و إن سقطت يجتهد لاعبو الفريق الثاني في الجري لإدراك "الميس" قبل أن يجلبها المنافسون لمنطقة الضرّاب ..

و بعض ألعاب جيلنا – ذلك الجيل الّلاحق لجيل "شليل"- كانت محض إجتهادات يأتي بها بعضنا و نطوّرها فتنال حظّها من التجريب و النّجاح أو تمضي فلا يأسى لها أحد .. و لمحمد حسن الفضل في إتحافنا بلعبة "البيضة" و تخليص الشعديناب من حجارة البطّارية القديمة أولا بأول .. فبعد رسم ميدان كرة قدم صغير بالجير أو الرماد أو أصابعنا – حسب ما إتّفق- نقوم "برَص" حجارة البطّارية الحمراء "إفرريدي" في أماكن اللاعبين في منتصف الميدان .. و الظّهرية "نسيت إسمها" في الميدان الآخر .. و نحرّك كرة البنق بونق "هذه المرة ليست كرة شراب .. فهي للأسف أكبر من الّلازم" بأصابعنا و بعون الّلاعبين الصغار "حجارة البطارية" في إتّجاه مرمى الخصم ..

و قد برع محمد حسن في تطوير هذه اللعبة فصنع لنا عرّاضات من الأسلاك بل و كساها بشبكة صغيرة لا أدري من أين أتى بها حتى لا تهرب منّا الكرة عند إحراز الهدف .. و غنيٌّ عن القول أن محمداً كان "أحرفنا" في لعبة البيضة .. كيف وهو عرّابها الأول ..
و قد بلغ شغفنا بلعبة "البيضة" أننا قد عكفنا عليها طيلة أيام الجمع .."ندُكّ" لها صلاة الجمعة و لا نترك لها فطورها ..و كانت الجمعة حينئذ إجازتنا الوحيدة ..نجلس أمام بيت "بت رمضان" حفظها الله بالسّاعات .. لا نخاف إلّا أن يمرّ علينا أستاذ "بدوي"- حفظه الله- في طريقة للجمعة أو قادما منها ..و لأن محمد حسن كان أشطرنا و "أشفتنا" و أعلمنا ببواطن الأمور، فقد جاء لنا بخطّة تقينا غضب أستاذ بدوي على عكوفنا على اللعب و تركنا صلاة الجمعة .. فجمع لنا من ورق الفلوسكاب و أقلام الشيني ما شاء الله له أن يجمع، ثم جلسنا و شرعنا في عمل جريدة حائطية و من ثم أخفينا ما تمّ منها في زاوية في ورشة خاله فيصل، و تناوبنا في الوقوف ك"ديدبان" نواحي دكان حمزة، فإن تمّ رصد المصلّين وقد قفلوا راجعين من مسجد الشّعديناب "تحت" (و كان الوحيد وقتها) أشار إلينا فأخفينا الحجارة و العرّاضات و أخرجنا الجريدة نعكف على تحريرها في همّة و كأنّنا لبثنا في ذلك ساعات! و قد وقع المحظور و مرّ علينا أستاذ بدوي مرّة فرآنا منهمكين في كتابة "كلمة العدد" و تدبيج الصّور و تلوين الأعمدة .. فقال لنا إن عملنا طيّب و لكن لا ينبغي أن نترك له صلاة الجمعة! ولو علم ما نعلم لجلَدَنا في الطّابور صبيحة السّبت جزاءا على ما اقترفت إيدينا وفاقا.

بسيطةٌ كانت حياتنا و جميلة .. لم يُفسد صفوها الأتاري و البلي ستيشن و لم نقع حينها أسارى للشّاشات و الّلوحات صغرت أم كبرت .. تجمعنا الرُّوندسة و لعبة البيضة و "ليته" ويفرقنا آذان المغرب .. نقرأ "تختخ" و "رجل المستحيل" سرّاً في المذاكرة و نأكل الفول عند "حريقة" ليلاً..



مستعدٌّ لدفع أغلى ما أملك في سبيل أن تجمعني "لييته" مرة أخرى في زقاقنا بالشعديناب مع سيف دكساوي، محمد إبراهيم، محمد حسن، بكري قمر الدين، و الصادق ود الكبير .. سلام الله يغشاهم أين ما كانوا .. شلة الزمن الجميل ..

السبت، 2 أغسطس 2014

الإنقاذ وجامعة الخرطوم: حشف. . . وسوء كيل !



كثيرون دهشوا لما تناقلته بعض الصحف فى الأيام السابقة تعليقا على خبر احتلال جامعة الخرطوم للمركز الثالث والأربعين أفريقيا فى تصنيف جامعة شنغهاى جياو تون الصينية ، وبكى أستاذنا جعفر عباس على ما آل إليه حال الجامعة فى زاويته ودعا إلى حملة لإنقاذها. .إلا أننى ، وكثيرون من طلاب وخريجى الجامعة فى حقبة الإنقاذ ، قد دهشنا لدهشة هؤلاء، بل ودهشنا أكثر لأن الجامعة - بعد كل الصفعات التى تعرضت لها من أصحاب المشروع الحضارى – ما زالت تدخل التصنيفات العالمية ، وقد كان ظننا أننا قد فارقناها منذ أمد بعيد!
لابد أن نقر إبتداءا أن التدهور  الذى أصاب الجامعة لم يبدأ فى عهد الإنقاذ ، وإنما بدأت إرهاصاته منذ الديمقراطية الثالثة ، لكن ، بينما كانت أسبابه قبل 1989 ترجع للإهمال و اللامبالاة ، ميز القصد والإستهداف المتعمد من بعض القائمين على الأمر ما حدث وما زال يحدث للجامعة بعد ذلك التاريخ. ويمكننا تلخيص العديد من مظاهر استهداف النظام وأنصاره للجامعة قديما وحديثا فى ما يلى :
الخطاب الإنقاذى الإعلامى تجاه الجامعة :
رغم أن معظم منظرى وقيادات النظام من خريجى الجامعة، إلا أن إعلام الإنقاذ قد صنف الجامعة باكرا كعدو محتمل يقف عثرة فى سبيل التمكين لدولة المشروع الحضارى ، ودأب على تهييج الغوغاء واستعدائهم عليها  ، ربما لأن الجامعة كانت أحد معاقل الوعى البارزة التى مثلت معارضة مهمة لسياسة التغييب وتكميم الأفواه التى مارسها النظام منذ إنطلاقته ، ومثلت الرئة الديمقراطية الوحيدة التى تتنفس بها البلاد وسط سياسة التهييج والهتافية التى عمت البلاد فى مطلع التسعينات ورفعت شعار (مع الرحمن أو مع الأمريكان ) وكفرت كل من وقف ضد أطروحات الإنقاذ تكفيرا سياسيا وفكريا. فمثلا :
* فى عام 1993كتب أحد منسوبى النظام فى إحدى الصحف اليومية – الإنقاذ الوطنى على ما أذكر- مقالا بعنوان (جامعة الغردون) ، هاجم فيه الجامعة واتهمها بالعلمانية والولاء للإستعمار الذى هى صنيعته وطالب بإلغائها خاصة وأنها تمثل حجر عثرة أمام تقدم المشروع الحضارى ! كان ذلك عقب المظاهرات العنيفة التى انطلقت من الجامعة فى نفس العام.
* فى إحدى حلقات برنامج فى ساحات الفداء قال مقدم البرنامج عن أحد الشهداء فى معرض الحديث عن مناقبه (ولما حالت لوائح جامعة الخرطوم بينه وبين أشواقه للجهاد تحول إلى جامعة السودان) ولا أدرى كيف ينتقد تلفزيون الدولة  لوائح جامعة مملوكة للدولة بدعوى أن لوائحها تحول بين الناس والجهاد ! وأظن أن المقصود أن جامعة الخرطوم لم توافق على البدعة المسماة ( إمتحانات المجاهدين) التى تتيح لبعض طلاب الجامعات الأخرى إمتحانات خاصة إذا  فاتهم حضور الامتحانات الأساسية أو إمتحانات البديل والملاحق المعروفة فى النظم الجامعية المتبعة فى كل مكان.
* فى حلقة أخرى من البرنامج المذكور فى أعقاب ما يسمى بإنتفاضة الرغيف أواخر1996،  والتى قادها طلاب الثانويات وجامعة الخرطوم ، تعرض معد البرنامج (لمثيرى الشغب) و (أذيال المعارضة) وعقد مقارنة بينهم وزملائهم المجاهدين الذين فارقوا مقاعد الدراسة ليوفروا الأمن لهؤلاء.وختم البرنامج بعبارة موحية :(هؤلاء الذين ذهبوا طلبا للشهادة فى الجنوب ما أسعدهم لو وجدوها فى الخرطوم) !
* تداولت الصحف اليومية فى أواخر عام 1994 خبرا يتحدث عن (جامعة حكومية عريقة تدور المشاورات هذه الأيام لتحويل إسمها لجامعة الشهيد ) ، وقد علل كاتب الخبر ذلك بالعدد الكبير من الشهداء الذين قدمتهم هذه الجامعة، ولم يكن الأمر يحتاج لذكاء كبير للتكهن بماهية هذه ( الجامعة الحكومية العريقة )، وأظن أن هذه  بالفعل كانت نية بعض متطرفى النظام ، وأن عقلاءه وقفوا ضدها ، إذ كان تطبيقها يعنى القبر الفعلى للجامعة بكل تاريخها وحاضرها ومستقبلها . 
الحصار الإقتصادى للجامعة :
حجمت السلطة من ميزانيات تمويل الجامعة بصورة واضحة ربما لصالح الجامعات الجديدة أو ربما لشئ فى نفس يعقوب ، حتى أن إنفاق الدولة على الجامعة لم يتعد فى أحيان كثيرة الفصل الأول، وقد ذكر لنا عميد سابق لكلية الطب أن ميزانية التسيير الممنوخة لجامعة الخرطوم فى أحد الأعوام تقل عن ميزاينة أحد المعاهد الجامعية العليا ! بل وقد وصل الفقر بالجامعة للحد الذى عجزت فيه عن دفع فواتير الكهرباء والإتصالات ، وما زلت أذكر ذلك اليوم فى صيف 1996 الذى قطعت فيه إدارة الكهرباء الإمداد الكهربائى عن الجامعة بسبب المديونية الضخمة. وقد أدت الحاجة المادية الملحة بإدارة الجامعة الى إتخاذ جملة من الإجراءات لتوفير المال اللازم لتسيير الجامعة التى واجهت شبح الإنهيار:
* قامت الجامعة ببيع مجموعة من ممتلكات الجامعة الإستثمارية مثل مزرعة الجامعة ( الجزء الشرقى ).
* قامت الجامعة بسن قانون القبول الخاص الذى أدخل لأول مرة المال كمعيار للإنتساب للجامعة المشهورة بدقة معاييرها الأكاديمية منذ تأسيسها ، وفتح الباب لدخول فئات أخرى غير مستوفية لشرط الكفاءة الأكاديمية تحت مسمى القبول الخاص ، مثل الدبابين وأقارب الشهداء الذين منحوا تخفيضا مقداره 7% من نسب الدخول لأى كلية .
* أدخلت الجامعة لأول مرة فى تاريخها نظام الدبلومات الذى يتيح بعض الموارد المالية ، وابتدعت بعض الكليات كورسات وبرامج تعليمية خاصة بها بالتعاون أحيانا مع بعض المؤسسات من خارج الجامعة.
* سنت الجامعة قانون جامعة الخرطوم الخاصة الذى يتيح للجامعة إنشاء كليات طب وهندسة وصيدلة موازية للموجودة حاليا ، وخاصة كليا ، وهو ما عرف حينها بالقبول الموازى ، ورغم إجازة القانون من مجلس الجامعة،إلا إن وقفة الطلاب القوية ضد القرار ، أدت إلى إلغائه بعد تدخل السيد/ على عثمان محمد طه .
هنا ، لابد أن نذكر أن تقييم جامعة شانغهاى  آنف الذكر قد إستند على عدة نقاط منها البحث العلمى الذى يعد ترفا فى جامعة تبيع أرضها ومعاييرها الأكاديمية الدقيقة من أجل تسيير نشاطها العادى ودفع فاتورة الكهرباء!
لقد أدى حصار الجامعة إقتصاديا إلى وقف البعثات العلمية الخارجية ،والرحلات الأكاديمية ، وغياب الجامعة من المؤتمرات والمحافل العالمية ، وتوقفت الدوريات والمطبوعات عن الصدور عن الجامعة أو الورود إليها لعجزها عن دفع الإشتراكات ، وتجمدت خطط ومشاريع التطوير والتحديث بل و حتى تزويد المكتبات بالمراجع والكتب الجديدة  ، وأصبح الهم الأكبر فى إيفاء نفقات التسيير اليومية ! 
التضييق على الأساتذة:
تعرض أساتذة جامعة الخرطوم من غير الموالين للنظام للتضييق فى الأرزاق ، ومصادرة الحريات والحقوق النقابية ، وكان معيار الولاء للنظام هو الأول فى تعيين قيادات الجامعة ، مما أدى لهروب عدد كبير جدا من طاقم الجامعة إلى الخارج ، بحثا عن خيار أفضل ماديا فى كثير من الأحيان ، بعد أن غدا ما تقدمه الجامعة لا يفى بالحاجات الأساسية ، أو بحثا عن مساحة من الحرية لم تتح فى ظل نظام يصر على تنفيذ أجندته الخاصة داخل الجامعة.
أدى نزيف العقول ألى تدهور فى الأداء الأكاديمى حيث إعتمدت الجامعة – خاصة فى الكليات النظرية على طاقم أكاديمى أقل خبرة وأحدث تجربة .
تشريد الطلاب ومصادرة حقوقهم النقابية :
استهلت الإنقاذ عهدها بمصادرة داخليات جامعة الخرطوم وإلغاء نظام الإعاشة مما أدى إلى تشريد الكثير من الطلاب الفقراء الذين ترك بعضهم الدراسة بسبب عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات الحياة اليومية.أما ما يسمى بالصندوق القومى لدعم الطلاب الذى أنشأته الدولة فقد فشل فى تقديم بديل لما كانت تقوم به عمادة الطلاب من إسكان الطلاب ورعايتهم وحل مشاكلهم ، بل وتحول إلى أداة جباية تفرض رسوما على الطلاب للسكن فى داخليات جامعتهم ، مما أدى إلى توتر العلاقة بين الطلاب والصندوق بصورة دائمة ، ساعد على ذلك مجموعة من المشرفين ضيقى الأفق والجاهلين بكيفية التعامل مع الطلاب والذين استعان بهم الصندوق لإدارة الداخليات بدلا عن مشرفى عمادة الطلاب ، كما عمدت إدارة الصندوق إلى الإستعانة بالقوة العسكرية دوما لحل مشاكلها مع الطلاب ، الشئ الذى بلغ ذروته عام 1999 عندما أدى إقتحام قوات الأمن للداخليات إلى إستشهاد محمد عبد السلام الطالب بكلية القانون آنذاك.
لقد جعلت هذه السياسة من بعض طلاب جامعة الخرطوم فى شغل دائم بأمر مصاريفهم الدراسية ومأكلهم ومرقدهم ، الشئ الذى أثر على الزمن المخصص للتحصيل الأكاديمى المتميز والإبداع الإنسانى الفريد الذى ميز دوما طلاب هذه الجامعة.فاقم من ذلك لجوء النظام ألى تعطيل إتحاد الطلاب لفترات زمنية طويلة ، إذ كانت إستراتيجية الدولة تجاه إتحاد طلاب جامعة الخرطوم تقوم على إتحاد يخضع لسيطرتها أو لا إتحاد. بنفس هذه النظرة الأنانية الضيقة عطل النظام قيام الروابط الطلابية والجمعيات الأكاديمية التى كان واثقا من عدم قدرة طلابه على الإستحواذ عليها وذلك لأكثر من ثلاثة عشر عاما.ولم يقتصر تأثير ذلك على إفتقاد الجامعة والطلاب لنشاط هذه الجمعيات والروابط الأكاديمى والثقافى المهم وتخرج أجيال عديدة من الجامعة بدون أن تحظى بهذه الأنشطة فحسب ، بل أدى أيضا إلى نشوء أجيال أخرى لا تعلم شيئا عن التراث الثر والتاريخ المشرف لهذه الكيانات ، وقد عانى الطلاب كثيرا لإعادتها إلى الحياة بعد تولى التحالف لقيادة الإتحاد، بعد أن فقدت الدساتير والوثائق وحتى الدور.
ويبدو هنا تقديم المصلحة الحزبية الضيقة على مصلحة الطلاب والجامعة واضحا ، إذ أنه ورغم أن تنظيم السلطة قد قاد الإتحاد عامى 93 و 94 ، إلا أنه تجاهل عن عمد إرجاع هذه الكيانات لعدم قدرته للسيطرة عليها كما ذكرنا آنفا.
التعريب :
جاء قرار تعريب المناهج الدراسية بالجامعات متسرعا ولم تصاحبه دراسة متأنية لما قد يؤدى إليه من آثار سالبة ولم يصاحب تنفيذه تدرج منهجى يتيح للمختصين تعيين ما يمكن تعريبه و توفير مناهج معربة مناسبة لحاجات البلاد ، بل قصد منه الكسب السياسى فى المقام الأول ، وضح ذلك فى المناهج التى قامت وزارة التعليم العالى بجلبها على عجل من بعض الدول العربية والتى اتضح عدم صلاحيتها للطالب السودانى خاصة فى العلوم الطبية والهندسية ،وفى سياسة الإرهاب التى اتبعها النظام تجاه الأساتذة الرافضين لقرار التعريب.ورغم إن مجالس بعض الكليات – ككلية الطب- قد اتخذت قرارا بعدم الإستمرار فى سياسة التعريب ،فإن طلاب الكليات التى سايرت القرار وهى معظم الكليات النظرية قد تضرروا جراء الجهل باللغة الإنجليزية اللازمة للدراسات العليا والمهمة فى سوق العمل ، ولم تجد مناهج اللغة الإنجليزية المصاحبة- والتى فرضتها إدارة الجامعة من بعد لتدارك هذا الخطأ التاريخى – فى تحسين مستوى اللغة الإنجليزية لخريجى جامعة اشتهرت دوما بالتميز فى هذا المجال.
لقد غدت الجامعة فى الأعوام السابقة كريما على موائد اللئام ، وسلبت منها مقومات البقاء والوجود ، ولولا وقفة عدد من أبنائها المخلصين من بعد عناية الله لأصبحت أثرا من بعد عين.وهى إذ تحاول الآن القيام من عثرتها ، لهى فى أشد الحاجة للمزيد من جهود أبناء اوطن ، لتعود إلى سابق ألقها  ،جميلة ومستحيلة ، قلعة للديمقراطية ومنارة للفكر.

  




الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

من يأكل لنا منسأة النظام؟




لو لم يكن لثورة ٢٣ سبتمبر المجيدة من فضل علينا إلا كشفها عن موت النظام لكفاها. ولأنّ الطغاة يقرأون من كتاب واحد، فقد جاءت الثورة لتُرينا في عصابة الإنقاذ ذات العلامات ممّا يقصه التاريخ دوما عن الإستبداد حين زواله وأنظمة الطغاة حين إحتضارها، وهي قصر النظر و إستمراء الكذب وبطش الخائفين.

تعمد الأنظمة الدكتاتورية حين تنتفض عليها شعوبها إلي إنكار ما يراه الجميع جلياً كضوء الشمس وتُسمّيه بغير أسمائه. يقع في إعتقاد الطّغاة كلما تطاول أمدهم في الحكم أن وجودهم فيه ليس لتقاصر همم شعوبهم وعجزها عن الإتيان بغيرهم أو لبطشهم بهذه الشعوب عند أي بادرة للحراك، وإنما لأنّهم أحقّ الناس به وأنّهم ،لا شريك لهم، من يُبدي في مصائر البلاد ويُعيد. وإنّهم إذ تصوّر لهم أذهانهم صدق هذا الخطل، يعمدون إلي تغليفه بأسماء تزين قبحه، فهو "الشرعية الثورية" حيناً و "حماية البلاد" حينا آخر أو، في حالتنا أخيراً، "عبادة"!، حتى إذا جاء أمر الله وفار تنّور الشعب وأزال عنه الغلاف، عاد إلي ما هو عليه من قبح.

الغريب أن  كلّ الطغاة يربطون أنفسهم بالوطن رباطاً لا فكاك منه، يقع في إعتقادهم أن ذهابهم يعني ذهاب الوطن، وأنّ وجودهم قمين ببقاء الوطن وطناً، وأنّه لولاهم لتخطّفنا الطير وتقاذفتنا الخطوب. يربط بين الأنظمة الدكتاتورية في كل مكان الإعتقاد الجازم بأنها الوحيدة القادرة على تولي مسؤولية الحكم، وأن جميع من سواها قاصر وعاجز. يعتقد الطاغية مع مرور الزمن أنه فقط، لا شريك له، القادر على حكم هذا الشعب المسكين الذي لولاه لإكتنفه الضياع. الغريب أن هذا الإفتراض أثبت التاريخ مرارا خطله، فالقبور والسجون مليئة بمن ظنوا أنهم لا غنى لشعوبهم عنهم، فذهبوا وبقيت الشعوب.

لقد كشفت لنا هبّة سبتمبر أن النظام -بكل جبروته وآلته الأمنية التى عكف على بنائها من قوت شعبه على مدار ربع قرن- خائف. بل أنه يرتجف رعبا. ولم أره طيلة سنين عكوفه في الحكم بهذا الإرتباك والطيش، يقابل صدور الشباب اليفّع، ممّن "لم يكن في فمهم أكثر من هتاف ولم يكن في يدهم أكثر من حجر" بالكلاش والدوشكا، ثم يكذب في تفسير ذلك كذباً أبلق.

النظام خائف لأنه قد علم أن الشعب ما عادت تخدّره شعارات الدولة الإسلامية والمشروع الحضاري والصبر على مكاره الإنقاذ لأنها تدفع فاتورة "تطبيقها لشرع الله" و "إستهدافها من أعداء الله" .. هذا الهراء لم يعد يقنع حتى منسوبي النظام فكفّوا عن ترديده. لقد عرف الشّعب النظام على حقيقته منذ أمد ليس بالقريب: عصابة ممن يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع، لا يجمعهم سوى نهب هذا الشعب ومص دمائه بعد أن قذفوا بالأيدلوجيا إلي مزبلة التاريخ.

وممّا زاد رعب النظام أنه قد أيقن أن الشعب قد ودّع الجبن والإستكانة إلي غير رجعة .. هال منسوبو النظام هبّة أولئك الشباب الصغار ممن نشأوا في عهد التّيه وتصديهم لآلات القتل بصدورهم العارية، فرأى نهايته تلوح في الأفق القريب، فأراد تأجيلها بالمزيد من البطش.

ويعلم النظام أن سُمّاره قد إنفضّوا من حوله، أولئك الذين قد أتوا به وجمعتهم حوله الفكرة والتنظيم، وقدّم الكثير منهم أرواحهم في سبيله في أحراش الجنوب، بل وكانوا على إستعداد لتقديم هذه الأرواح في الخرطوم لإعتقادهم حينها أنهم إنما يحمون الفكرة في شكل الدولة وانه إنّما "من جماجمهم ترسى زواياها".
أذكر إنني كنت أشاهد حلقة من (في ساحات الفداء) إبان هبّة لطلاب جامعة الخرطوم في منتصف التسعينات، وقد عمد المخرج فيها على المقارنة بين صور للطلاب "المجاهدين" في أحراش الجنوب و" المخرّبين" في جامعة الخرطوم، وختم البرنامج بجملة ذات دلالات وإيحاءات أن "هؤلاء الذين ذهبوا طلبا للشهادة في الجنوب، ما أسعدهم لو وجدوها في الخرطوم".

النظام إذاً في هم عظيم لأنه قد علم أن أولئك الذين كانوا سيطلبون الشهادة في الخرطوم قد فارقوا فسطاطه لغير رجعة، لأنهم علموا كما علمنا أن قادتهم قد ودّعوا الفكرة منذ حين طويل، وعملوا للدنيا فاتّخذوا القصور فارهين ومن النساء مثنى وثلاث ورباع، وأن الطّريق قد أضحى ليس لمن سبق أو من صدق، بل لمن نافق وسرق.
يعلم النظام أن من بقى حوله ليس سوى مجموعة من المنتفعين، لن يجدهم عند الشدائد، يرى مآلاتهم في شواهد التاريخ القريب، في عضوية الحزب الوطني المصري "المليونية"، وجماهير اللجان الشعبية "الثائرة" و جموع الحزب الدستوري (حزب بن علي) "الهادرة". ويعلم أن النّهاية المحتومة قد إقتربت، وأن المنية قد أنشبت أظفارها ولن تنفعه حينها التمائم.

الفرق بيننا وبين جِنّة نبي الله سليمان عليه السلام أننا نعلم بأن النظام قد مات، وأن شعبنا لن يلبث بعده في العذاب المهين.


الأربعاء، 20 فبراير 2013

ملائكة رحمة .. لا جلاوزة عذاب!

قسم أبقراط



"وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه"  (القسم الطبي).
صُعقت كغيري من أطبّاء السودان أو ما بقي منهم بالخبر الذى حملته الصحافة قبل أيّام من أن أطباءاً بمستشفى الرباط قد قاموا بقطع يد ورجل متهم بجريمة قطع الطريق تنفيذاً لحد الحرابة. وقالت صحيفة (السوداني) الصادرة في 15 فبراير "الأطباء نفذوا عقوبة القطع من خلاف على مدان في جريمة حرابة، بعدإستنفاذ كافة مراحل التقاضي".
وحتى لا يختلط الأمر على الناس، فلست هنا بصدد مناقشة الحكم ووجوب تنفيذه أو ما أستند عليه من حيثيات أو قوانين، فلذاك أهله،  بل من قام بتنفيذ الحكم من زملاء ردّدوا ذات يوم " أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق" ووُسموا منذ الأزل ب"بملائكة الرحمة".
ولم أكن لأتصور- بعد مرور قرابة القرن من الزمان على تأسيس أول كلية طب في السودان- أنّنا سنحتاج لتعريف واجبات الطبيب، وأنّنا سنُضّطر أن نُقّدم قسم الطبيب الذى تقدّم والذي يعلمه الأطباء بداهةً كدليلٍ بين يدي دعوانا، غير أن الخبر الذى فَزَعنا فيه بآمالنا إلي الكذب حتى لم يدع لنا صدقه أملا، ألجأنا إلي أن نعيد تقرير حقائق معروفة للعالمين، وبديهيات معلومة بالضرورة، من أن قطع الأيدي والأرجل وتنفيذ أحكام القضاء ليس من واجبات عمل الطبيب، ولا يندرج تحت صون حياة الإنسان وإستنقاذها من الألم، بل يتعداه ليصبح جريمةً في حق المهنة، خرق ممارسوها قسمهم ببذل الرعاية الطبية "للصالح والطالح والصديق والعدو"، وخانوا العلم الذى تعلموه في وضعه في غير موضعه وتسخيره في أذى الإنسان لا نفعه.
وقد تمهّلت قبل كتابة هذا المقال آملاَ أن يصدر تكذيب من مستشفى الرباط أو أطبائه، وعيل صبري في توقّع توضيح على شاكلة أن الأطباء المذكورين إنحصر دورهم في تقديم العناية الطبيّة والجراحية للرّجُل بعد أن قام الجلادون بتنفيذ الحكم، ولكن خاب ظنّي، وجاءت الأخبار تترى بأن الأطباء المذكورين قد خلعوا لباس الرحمة وإمتشقوا سيف الجلاد وقاموا بنفسهم ببتر يده ورجله. وقد تساءل زميلٌ لنا عن ما قد تفتّقت عنه أذهان هؤلاء عندما عمدوا إلي ملء خانة (الدواعي والأسباب) حين كتابة تقرير العملية، فشرحهم ذاك لا بد وسيكون سابقة في تاريخ العمليات الجراحية منذ عهود إبن سينا وأبقراط.
 وقد لا يَستعجب البعض مما حدث قياسا لما خبرناه مِن قَبْل من منسوبي النظام من الأطباء مما ظّننا وما لم نظن قدرتهم على الإتيان به. ولن إستغرب إذا علمت أن الجرّاحين الذين قاموا بتنفيذ الحكم قد هلّلوا وكّبروا في غرفة العمليات وقد وقع في ظنّهم أنهم إنّما يتقربون إلي الله زلفى ويمكنون لدولة الإسلام التي جاء بها تنظيمهم في 1989. فبإسم المشروع الحضاري والتمكين، قام بعض أطباء النظام بالإشراف على تعذيب الناس في بيوت الأشباح وبعضهم زميل مهنة ودراسة، بل وإمتشق بعضهم السلاح جندياً يسلب الناس ذات الروح التى سخّره الله للحفاظ عليها وصونها "للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو". وبإسم ذات المشروع الحضاري والولاء للتنظيم، سام بعض أطبّاء النظام زملاءهم سوء العذاب عندما تحكّموا في مفاصل الخدمة الإلزامية ووزارة الصحة وإدارات المستشفيات، فقذفوا بمن لا يحبّون ومن لم يجاري خطّهم السياسي أيام الطّلَب إلي غياهب الجنوب وأبعدوهم من فرص التعيين والإبتعاث وخصوا بها أصفياءهم المنظمين، حتى أن أصبح "الجهاد" في الجنوب ذات حين معياراً للحظو بوظيفة في مستشفى الخرطوم حين صار الرقم الوظيفي للطبيب العمومي أمنع من عقاب الجو حتى في أقاصي البلاد، فضاق الوطن على سعته على الأطباء عندما إختزله زملاؤهم "الرّساليون" في "الحزب القائد"، فقوّضوا خيامهم عن أرض يهانون بها ويمّموا مشارق الأرض ومغاربها.
أتمنى أن يطل علينا الزملاء ممّن نُسبت إليهم هذه الفعلة– وقد تناقل البعض أسماءهم-  ليدفعوا عن أنفسهم تلك التهمة الشنيعة، وإلا فليس لهم من قبيلة الأطّباء إلا العَزل والمقاطعة، فهم ليسوا مثالاً لما عليه مهنة الطب في السودان بأيّ حال، وستظل جموع الأطباء في السودان هم "الحكماء" الذين طالما عرفهم الناس، يواسون جروحهم ويزيلون آلامهم، ملائكة للرحمة ورُسل للإنسانيّة.

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

هل أصبحت كلية الطب خيار الأغبياء؟!


في صيف 2005 وبعد إنتهائي من الإمتياز والخدمة، كنت عاطلا عن العمل في إنتظار وظيفة لم تأت ومفلساً وفي غاية القرف. كتبت هذا المقال مخاطباً طلاب كلية الطب جامعة  الخرطوم وعلقته في أرجاء الكلية. أعيد نشره لأن الحال في حالو بل وأزفت.
الرجاء عند قراءة المقال مراعاة فروق الوقت !

الأطباء يتقاتلون على شباك المهية



أشُد على أياديكم
فمأساتي التي أحيا ..
نصيبي من مآسيكم !

(كلام كان يكتبه د. لؤي حيدر يومياً على سبورة قاعة أنيس أيام المذاكرة، ولم أدرك عمقه إلا مؤخراً)

دهش صديقي د. خالد طوكر عندما إكتشف أن سائق الركشة التي إستأجرها لتقل أمه من السوق الشعبي طبيب نائب إختصاصي حاصل على الجزء الأول من زمالة الكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والتوليدMRCOG . النائب المذكور علل لخالد عمله بالركشة لقلة الحيلة وإنعدام وظائف النواب والأطباء العموميين، ودافع عن وضعه بأنه مؤقت أملته ظروف العطالة والحاجة لجمع مال ييسر له إكمال الجزء الثاني من الزمالة ببريطانيا.

في ظل هذا الوضع الشاذ، وجلوس مئات الأطباء العموميين والنواب في قوائم الإنتظار الطويلة وتسكعهم بين شبابيك وزارة الصحة، وفي ظل الوضع المزري لممارسي الطب في هذه البلاد، يطل سؤال برأسه وما زال الكثير من طلاب الشهادة السودانية يضعون دخول كليات الطب نصب أعينهم: هل مازالت لدراسة الطب ذات البريق الأول؟ وهل مازالت أمنية الكثير من الأسر أن يتخرج أحد أبنائها طبيبا لرفع مستوى الأسرة إجتماعيا ومادياً؟

أنا شخصياً أصبحت أنظر بعين الأسى لكل الإخوة الصغار الذين مازالوا في السنين المختلفة لكليات الطب. زقد بلغ تطرفي في ذلك حداً جعلني أرثى لأي تلميذ متفوق في الأساس أو الثانوي أرى أن تفوقه ربما أودى به لدخول كلية الطب!

لماذا يدخل الإنسان كلية الطب؟
تختلف أهداف الناس من دخول هذه الكلية، إلا أننا سنحاول أن نضع إطاراً عاماً ربما شمل جل، إن لم يكن كل، هذه الأهداف:

الهدف الأول: لأن الطب مهنة إنسانية ومزاولته خدمة للوطن و و و ... إلخ من هذا الهراء الذي أصبح لا يقنع أحداً. تتلاشى كل هذه الأفكار الوردية بمجرد خروجك من عتبة هذه الكلية أو تلك لممارسة الطب الإنساني في مستشفيات السودان اللا إنسانية. يدرسوننا أنبوبة إيقاف النزف المعوي في الجراحة، ومن كثرة التكرار تظن أنها بلاشك ستكون بالدستة في جيب أي طبيب في اي مستشفى، لتكتشف أن مستشفى الخرطوم به واحدة معطوبة، وأن مستشفيات عظيمة كإبراهيم مالك وجميع مستشفيات الولايات لم تحظ بهذه المعطوبة!
تخرج لممارسة الإنسانية في محيط عمل لا يؤمن بها، ونظم إدارية وقوانين تقتل المريض الذي لا يملك ثمن حقنة أو عملية. نصف فترة الإمتياز ستقضيها (شحذة) لدواء المريض الفلاني أو لم (شير) لمريض آخر.
بالمناسبة: رغم إنني لا أحب كليات الطب الخاصة إلا أنني إكتشفت مؤخراً أنها قد تكون نعمة من الله على عباده المساكين. أ\كر، أثناء سعينا، في لجنة الأطباء والنواب لزيادة المرتبات، أننى قد داعبت زميلة من الأحفاد قائلاً: "أنتم بلا شك في غير حاجة لزيادة المرتب وأنتم قد درستم بآلاف الدولارات" فردت بلهجة تقريرية " هو المرتب لينا؟ ما لل patients  !  
مستشفياتنا الإنسانية تسرح فيها الكدائس وتعج بالفئران. قد توبخ من ال Boss أو تطرد من ال shift لأن كديسة لئيمة قد سرقت في حين غفلة منك عينة جراحية أُخذت من مريض وأُعدت لترسل لمعمل الأنسجة المريضة. وإن أنس لا أنسى منظر كديسة رأيتها تلحس بإستمتاع بصاق مريض من الطشت المجاور لسريره. ولما لم أستطع إكمال المنظر فقد أغمضت عيني وصرخت في عبدالله الجنيد أن ينهر هذه الكديسة!

حكاية كديسية أخرى: كانت لدي مريضة إجهاض في مستشفى كسلا. وجن جنوني عندما رأيت كديسة في ركن غرفة الولادة وهي منهمكة في إلتهام ما بدا لي من بعيد جنيناً آدمياً، فرحت أطاردها كالمجنون في الردهات علّي أن أستنقذ منها بقاياه، إلى أن جاءتني الداية مسرعة لتخبرني أن ما إلتهمته القطة جنينها الذى أنجبته في غرفة الولادة أسوة بالبشر وأن مريضتنا لم تجهض بعد!
وقد كان عندنا فأر مشهور في مكتب وحدة جراحة الجامعة يأكل عشاءنا ويخيف زميلاتنا ويمشي فوق وجه أحد الزملاء وهو نائم. وقد أعلنت يوماً وأنا نوبتجي بالمكتب أنه "يا أنا يا الفار" وأن لا نجوت إن نجا. فطردته أول الليل وسددت كل المنافذ ووضعت بقربي كل الأسلحة. وقد علم الجميع صبيحة اليوم التالي من عيوني المحمرة والفوضى التي تعن الغرفة أن النصر كان لل...فأر!
ذهبت إنسانية الطب مع كبار جعلوا تذركة الدخول لمريضهم مايربو عن المائة ألف جنيه، وآخرين شيدوا للطب صروحا لا تدخلها إلا بجيب ممتلئ وحساب بنكي متخم وإلا قذف بك ناس الهدف خارجاً، وآخرين جعلوا للقادرين تذكرة دخول مستعجلة تضاعف تذكرة الدخول العادية.
هَب أنك ستسمو فوق كل هذا الواقع وستمارس الإنسانية، كيف وانت ملطوع في كشف الإمتياز شهوراً عدداً؟ كيف وأنت ضمن مجموعة كبيرة من النواب والأطباء العموميين ممن هرموا في إنتظار الوظائف؟

س: ماهي أكبر المنظمات الطبية في السودان من حيث العضوية والإنتشار الجغرافي في كل الولايات؟
ج: لا تفكر كثيراً، هي بالطبع منظمة: أطباء بلا نقود!

الهدف الثاني: دخول كلية الطب لتحقيق ذاتيتك وطموحك الشخصي لأنها أعلى الكليات في السودان، وهذا في رأيي هدف معقول، لولا إنه لا ينطبق إلا على هذه الكلية (الخرطوم) دون غيرها من كليات الطب الأخرى. ثم إن كلية الهندسة الكهربية قد أخذت منا هذا الشرف مؤخراً!

الهدف الثالث: أن تفتخر بأك قد درست في كلية خرجت كل هؤلاء العمالقة من أمثال بروفسير داؤود وبروفيسر التجاني الماحي وغيرهم من النجوم التي أضاءت سماء هذه البلاد. وهذا للأسف لا ينطبق إلا على هذه الكلية وإلى حد كبير كليتّي طب الجزيرة وجوبا, هذا ايضاً هدف ممتاز، ولكن هل هو كافي لتجلب على نفسك كل هذه التعاسة المرتبطة بالعمل كطبيب في السودان؟

الهدف الرابع: أن تطمح لأن تتتلمذ على أيدي أميز صفوة أكاديمية في السودان من أساتذتنا الأجلاء، وهذا أيضاً لا ينطبق إلا على هذه الكلية والكليات القديمة وربما بعض الكليات العاصمية، فبعض كليات الطب الأخرى لا يرى طلابها أسماء عملاقة مثل بروفيسر نصرالدين وبروفيسر سكر إلا في غلاف ال Concise، ولا يسمعون صوت عمالقة آخرين مثل بروفيسر الضو مختار وبروفيسر الكدرو إلا من خلال، طيب الذكر، برنامج صحة وعافية.

الهدف الخامس: أن تنضم إلى صفوة الطلاب المميّزين أكاديمياً: Cream of the cream الذين يدرسون الطب، وما أبأسه من هدف!! كان هذا زمااان في عهود ما قبل (الفتح!). في السودات الآن 26 كلية طب عاملة وثلاثة قيد (الفتح!)، وهو ما يساوي 25% من كليات الطب في العالم العربي.
بالمناسبة: عدد كليات الطب في بريطانيا العظمى (إنجلترا+ويلز+سكوتلندا+إيرلندا) = 27 كلية طب
شبه القارة الأسترالية: 10 كليات
كندا: 16 كلية. أي أننا، أخيراً، قد تفوقنا على دول الإستكبار!
وينتفي هذا الهدف تماماً إذا علمنا أن كليات الطب الخاصة تتساهل كثيراً في نسب القبول، ولا يهم ما تنتجه في النهاية، بسكويتاً كان أم طبيباً! فالحكاية كلها إستثمار، وليس من مشكلة ما دامت الدولارات تأتي كل عام!
هل تعلم أن بعض زملائنا المستقبليين في ممارسة المهنة يدرسون الطب بالسودان بنسبة دخول معلنة 50%؟ وما خفى كان أعظم!

أظن كفاية!

تعازي أخشى ألا تخدعكم:
قال الشافعي: العلم علمان، علم الفقه للأديان وعلم الطب للأبدان وما وراء ذلك بلغة مجلس.

قال شاعر: قل لمن بصروف الدهر عيّرنا            هل عاند الدهر ألا من له خطر
              ألم تر البحر تعلو فوقه جيف             وتستقر بأقصى قعره الدرر
           وفي السماء نجوم غير ذي عدد            وليس يخسف إلا الشمس والقمر

أخيراً: هي محاولة للسخرية من واقع بائس، أعذروني إن قسوت عليكم قليلاً!

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

أولاد شلتنا (6) - خالد صديق




زهاء ثلاث سنوات مضين بعد آخر "ولد شلتنا"، وها نحن من جديد نبدأ من حيث إنتهى بنا الحديث، خالد صديق، خالد نيالا سابقا..
وقد كنت قد عزمت على أن أقُل في خالد ما قاله وما لم يقله مالك في الخمر وأن "أدّيلو بالحتة الفيها الحديدة" لكنّي نكصت عن عزمي طمعاً لا خوفاً، فخالد قد "تبوّأ" الآن منصباً كبيرا في اليونسيف، ولما كانت الأخيرة من المنظمات التي يتوق من هم على شاكلتنا من ناس الكمونيّة للعمل بها فلم يكن من الحكمة إذا ألّا "أقدم السبت" طمعاً في "أحد" خالد!
الطريف أن خالداً نفسه قد ذكّرني أن "القصة دي واقفة فوقو" وأن من الأفضل لراؤول، الذى كان قد ذكر حتة "لغاويسه" في جلسة جمعتنا قبل شهرين بالخرطوم، أن يتجنب تذكيري بها خشية أن يقع المحظور وأتملّك – كالجيش السوداني- زمام المبادرة من جديد!
 عرفنا خالد منذ السنة الأولى، وإن شئت الدقة فلتقل أنه لم يكن لدينا خيار سوى أن نعرف خالد! فقد كان خالد سياسياً ناشطاً منذ بواكير حياته في المدرسة الثانوية، ولعل خالد من القلائل ممن جاءوا إلي الجامعة برؤية واضحة ومسار محدد، عكس الكثيرين ممن بحثوا عن ملاذات فكرية وسياسية بعد إحتكاكهم بالجو السياسي في الجامعة، فمنهم من وجد بغيته ومنهم ومن ينتظر..
جئنا إلى الجامعة وقد وقع معظمنا أسيراً "للبروباقندا" الإنقاذية التى جعلت من الحزب الشيوعي منظمة أقرب للمافيا ومن الشيوعيين كائنات سافكة للدماء وآكلة للبشر. نجح خالد وشباب الجبهة الديمقراطية الآخرين من أولاد دفعتنا في عكس صورة مشرقة للشيوعي وأحبّهم الجميع بمختلف إنتماءاتهم السياسية والدينية. وربما ذلك يرجع لأن المنتمين للجبهة الديمقراطية في دفعتنا كانوا من صفوة القوم، وكنا محظوظين بوجود شباب مثلهم زي الورد، تجدهم في السراء والضراء ويسندون قفاك حين الملمّات.  
والغريب أن خالداً، رغم شخصيته المرحة وعلاقاته الإجتماعية اللامحدودة، قد نجح في إحاطة إنتمائه للجبهة الديمقراطية بكثير من السريّة، فحتى الآن لا نعرف على وجه الدقة نحن ما كان يفعله خالد في الجبهة الديمقراطية، فنحن نعلم مثلا أن الشيخ كان كادراً خطابياً مفوهاً لا يشق له غبار، و لابد أن سيف كان مسؤولا عن الجريدة (غالباً معاهو ميادة، أمسك الخشب، هذه أسرار تنشر لأول مرة!)، أما خالد فلا أعتقد أنه كان "كادر عنف" –إن وجد هذا المسمّى- مثلاً!
يحفظ  لخالد أنّه كان حريصاً على تطبيق الفكر التقدمي وتوجيهات التنظيم حتى على مستوى حياته الخاصة، كان شخصي شاهداً على حادثة طريفة.. فقد كنا متحلّقين في مدخل كافتريا طب ومعنا خالد، فإذا بأحد الكيزان المشهورين (ووجه شهرته أنه كان "بيحوم" بالكاكي في الجامعة) وقد يمم صوب شلّتنا ماداً يده بالسلام، فحدجه خالد بنظرة نارية أربكته فسحب يده المدودة بالسلام وولّى هاربا صوب دكان أمين ولم يعقب! كان ذلك في أوج تداعيات إستشهاد محمد عبدالسلام والمقاطعة الإجتماعية للكيزان والتي أجزم بأن خالد كان دقيقاً لأبعد الحدود في تطبيقها!
الحادثة الثانية كانت أيام أن شكّل بعض أبناء الجنوب عصابات صغيرة جابت الأزقّة المجاورة لكمبوني وبنك الخرطوم، إتخذت هذه العصابات أسلوب نهب واحد: يحتك بك أحد أفرادها ويختلق مشكلة من العدم، فيهرع بقية أفراد العصابة ويتحلقوا حولك مُرغين ومزبدين، وبعد أن ينجلي الموقف تكتشف فقدان جزلانك والموبايل. وقد (إتزنق) صديقنا شريف ذات ليلة مع مجموعة من هؤلاء قبالة بنك الخرطوم، أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم وضاقت عليه الأرض بما رحبت. لكن شريف إتّبع إستراتيجية ناجعة، فأثناء إحتداد النقاش إتخذ هو وضعا قتالياً أوهم مهاجميه أنه سيقاتل فإبتعدوا قليلا ليستعدوا للموقف الجديد ويتحرّفوا للقتال، فانتهز هو الفرصة وأطلق ساقيه للريح تجاه حسيب والرازي!
المهم أن خالد ومجموعة من الصحاب كانوا سائرين ليلا قرب ملاعب كمبوني فاصطدم أحدهم بخالد و إتهم خالد بأنه قد صدمه متعمداً. وأثناء النقاش بدرت من المهاجم كلمة بمعنى أن خالد قد صدمه من باب "حقارة أولاد العرب" فأضاف بذلك "بعداً جديداً للصراع"!
أخبرني الصحاب أن خالد بعد ذلك نسي الموضوع برمته ومسك في الحتة الأخيرة دي، وما فتئ (ينقنق) من مكانهم ذاك حتى وصولهم مكان المواصلات أن كيف يتهمه هذا بهكذا تهمة وهو قد أنفق عمره منافحاً عن مبادئ تقف ضد هذه السلوكيات وصائناً لها.
ورغم إنّ خالد يعطيك الإحساس أحياناً بأنه (ما جادّي) إلا إنه على النقيض تماما، فقد أفلح في رسم مسار محدّد لحياته نجح في إنجازه وما زال، في وقت ما زال فيه كثير من رفقائنا يتلمسون خطاهم الأكاديمية والحياتية. فخالد لا يضع السيف في موضع الندى أبدا،ً وللحلم عنده أوقاتاً وللهظار والشلة مثلها، لذا كان خالد أوّل من بدأ التخصص من شلتنا وأول من إقتنى حديدة (وقد كانت فعلا حديدة!)  في الإمتياز وأوّل من تزوج وكون أسرة. ولنا مع حديدة خالد الأولى تلك ذكريات طريفة، منها قصة إكتشفت منها أن لخالد حصيلة لا بأس بها من الأحاديث الشريفة! ذلك أن خالد كان مبتدءاً في السواقة وكنا معه في مشوار ما في شارع محمد نجيب، فمر من أمامه مشاة وطلبوا منه الإنتظار لحظة ريثما يقطع آخرهم الشارع، فتوقف خالد بعد لأي وجهد (لعاملين: "كعكعة" العربية، و"كعكعة" سواقة خالد)، فنظر إليهم شذراً وقال "والله لوتعلمون ما أعلم"!
وقد كان خالد أول من يمم شطر الكميونيتي من دفعتنا، وكما ذكرت في (في تقريظ الكمونية وناسها) فإنّنا تمنينا دوما أن تُعَز الكمونيّة بأحد الخالدين الشيوعيين: خالد صديق أو خالد طوكر. وكنت دائما أقول أن الكميونيتي من أفرع الطب التى لا يصلح فيها ولا يبرز إلا أناس بكاريزما معينة، وأنّ وجود جيل جديد من الأطباء المؤمنين بها العالمين بعلومها والمكرسين وقتهم وجهدهم  لها كخالد صديق قمين برفعها من وهدتها في السودان.  
وقد يمّم خالد شطر الجامعة الأمريكية في بيروت ومكث عامين أو زهاؤهما ينهل من علوم الكميونيتي برفقة الماء والخضرة وغيرهما! وكما ذكرت من قبل، فلمّا كان خالد الأسمر الوحيد في الجامعة فقد خشينا أن يجعل ذلك منه محطاً لأنظار الصبايا! ولعل ذلك قد كان حتى أنقذه الشيخ- الأسمر والسنقل في آن!
 وأيّام لبنان نصبت لخالد مقلبا ًمحكماً أفلت منه بنجاح منقطع النظير. فقد طلبت من إحدى زميلاتنا اللبنانيات (أيّام أمريكا) أن تتصل بخالد في لبنان:
زميلتنا: هلا خاااالد إيش لووو ونك
خالد في الإسبيكر: أهلاً (بكون كان مطيّر عيونو في اللحظة ديك)
زميلتنا: معك ريتّا. مالك ماعام تظهر، إشتئنالك!
خالد: أو.. أو؟ (صوت إستفهامي يصدر من الحلق)
زمليتنا: الشلة الليلة حيتلاؤو، حنشووووفاااااك؟
خالد: آآآ؟ (صوت إستنكاري يصدر من الحلق .. أيضاً)
المفيد أن خالد لم ينبس ببنت شفة طيلة الحوار، ولكني على يقين أنه لم يستشف أن وراء المكالمة مقلباً ما فالبنية كانت بارعة في التمثيل ، ولعله أراد أن يشوف "نهاية البت دي شنو"!
وكما تقدم، خالد الآن زول كبير في اليونسيف، كسرنا له من التلج في هذا المقال ما شاء الله لنا أن نكسر، عسى أن يرمقنا "بالعين الخالية من التنشين" –التعبير لعبدالله الجنيد-  ويشملنا بعطفه! وهو كذلك أبو ريل والتي ورثت جبهة خالد صديق المميزة، وسمرة (دبورتين يعني)، ومازال يخصص وقتاً للشلة،  فأمسياتنا لا تسقيم إن لم تبدأ بسلام خالد المميز (والذي لا ينصح به أطباء السلسلة الفقرية) وونسته العذبة.